" الفرجة تحول كل نشاط بشري، بما فيه العمل، إلى سلعة مرئية"
"لم نعد نبيع وقتنا للعمل، بل أصبحنا نشتري الوهم بأننا مفيدون" (جان بودريار)
سيعرف الفصل الرابع من كتاب "ظاهريات الروح" (1807) لهيغل شهرة كبيرة. أولا، لأهمية موضوعه الذي يتناول فيه الفيلسوف الألماني بالتحليل جدل "السيادة والعبودية"، ثم لما كان له من امتداد عند جل الفلاسفة المعاصرين. يدور الفصل حول صراع بين فردين يسعيان إلى الاعتراف بهويتهما وقيمتهما. في خضم هذا الصراع، يتشكل "الوعي الذاتي" لكل منهما، وتظهر علاقة غير متكافئة بينهما: علاقة سيد بمسود.
فردان يواجه أحدهما الآخر، وكل منهما يريد أن يعترف به كـ"ذات" مستقلة. يتمخض عن ذلك صراع مصيري يحاول فيه كل طرف إخضاع الآخر. الطرف الذي يهاب الموت ويستسلم يصبح "خادما"، بينما الطرف الذي يتحدى الموت يعترف به كـ"سيد". يعتمد السيد على الخادم في تلبية احتياجاته المادية، لكنه يفقد الاتصال مع الواقع والعمل (الذي يتولى الخادم القيام به). لكن، رغم خضوعه، يطور مهارات وإرادة من خلال العمل، مما يمنحه "وعيا ذاتيا" أكثر عمقا من السيد. بمرور الوقت، يصبح هذا الأخير معتمدا على الخادم، أما الخادم فيكتسب، من خلال عمله، سيطرة على الطبيعة ويصبح أكثر استقلالية. يستخلص هيغل من ذلك أن العمل هو الذي يحرر الخادم ويغير وعيه، بينما يظل السيد سجين اعتماده على الخادم.
علاقة تطورية
يظهر الجدل أن الاعتراف المتبادل ضروري لتحقيق الحرية الحقيقية، كما يوضح أن العلاقة بين السيد والخادم ليست علاقة ثابتة، بل تتطور عبر التاريخ. لكن أهم ما يتمخض عنه هذا الجدل هو أن الخادم، رغم خضوعه، هو الذي يمتلك القدرة على التغيير الجذري للمجتمع. لا ينحاز فيلسوف برلين إلى السيد، وإنما إلى الخادم. لأنه، بعمله، سيدرك أنه هو محرك التاريخ ومغير المجتمع. العمل هو أساس الحركة التاريخية، بل إن الفكر نفسه عمل، والروح تعمل، والعمل يشكل الروح.
في ثلاثينات القرن الماضي، سيتناول مفكر روسي كان يدرس في معهد الدراسات الشرقية في باريس، هذا الفصل بالترجمة والتحليل خلال دروس ليلية كانت تجمع أهم الأسماء التي سيكون لها باع كبير في الفكر الفرنسي في ما بعد. سيعطي هذا الفيلسوف، واسمه ألكسندر كوجيف، تفسيرا ثوريا ومؤثرا لجدل "السيادة والعبودية"، معيدا تأويله بطريقة جعلته حجر الزاوية في الفلسفة القارية الحديثة، خاصة لدى الماركسيين والوجوديين. لا عجب أن يعد بعض مؤرخي الأفكار، كوجيف هذا "المعلم الخفي" للفكر الفرنسي في القرن العشرين.
سيعمل الفيلسوف الروسي على توسيع فكرة هيغل عن "الصراع الدموي"، مشيرا إلى أن الرغبة في الاعتراف هي ما يدفع البشر إلى العنف والمجازفة بحياتهم (مثل الحروب والثورات). الصراع الجدلي هو أساسا صراع بين رغبات، والإنسان عند كوجيف، ليس كائنا عاقلا فحسب، بل هو أساسا "رغبة في الاعتراف".
سيولي كوجيف أهمية كبرى للخادم باعتباره "بطل" التاريخ، وسيؤكد أن العمل (وليس الصراع) هو الذي يحرر الخادم ويغير العالم، فمن خلال عمله، يطور "التقنية" و"الثقافة"، ويصبح قوة التغيير الحقيقية. السيد، رغم انتصاره الأولي، يعيش في فراغ وجودي، لأنه لا يعمل ولا ينتج، بينما الخادم يبني العالم. هذه الفكرة ألهمت بعض الوجوديين، مثل سارتر، فرأوا في السيد نموذجا للعبث والاستلاب.
لا داعي أن نؤكد ما كان لهذه الفكرة من أهمية عند ماركس الذي يلتزم أيضا بحزم أولوية العمل. فالتاريخ يبدأ بالعمل، إلى حد أن الوعي بالذات عنده لا يتولد عن الفكر بل عن العمل، "أعمل، إذن أنا موجود"، يقول: "إن الفعل التاريخي الأول لهؤلاء الأفراد، الذي يميزهم عن الحيوانات، ليس كونهم يفكرون، بل كونهم يشرعون في إنتاج وسائل عيشهم. وهذا الوضع لا يحدد فقط التنظيم الذي ينبع من الطبيعة، والتنظيم البدائي للبشر، ولا سيما اختلافاتهم العرقية، بل يحدد أيضا كل تطورهم أو عدم تطورهم اللاحق حتى العصر الحالي".
سنستغرب إذا علمنا أن صاحب كتاب "الحق في الكسل، تفنيد لمفهوم الحق في العمل" (1880)، وهو بول لافارغ، ليس إلا صهر كارل ماركس نفسه. عمل هذا الكتاب على إحياء الفكرة القديمة عن العمل حيث كان الفلاسفة يعلمون ازدراء العمل، باعتباره انحطاطا للإنسان الحر، وحيث كان الشعراء ينشدون الكسل، تلك "الهبة المقدسة من الآلهة".
إرادة المظهر
ماذا يمكن أن نقول عن مجتمعاتنا المعاصرة التي ينعت بعضها بأنه "المجتمع ما بعد التاريخي"؟ ألا يسير هذا المجتمع أساسا، وجنبا إلى جنب، مع تشكل "جمالي" للحياة؟ فهو ليس مجتمعا مدفوعا بإرادة الحقيقة كما قد يقول نيتشه، وإنما بإرادة المظهر واللعب. إنه مجتمع يتلاعب بالسطوح ويستسلم لإغراء المظهر: فـ"حيث كان الإنسان التاريخي يتحدث عن الحقيقة والزيف، لم يعد فيلسوف مثل نيتشه يرى سوى "مستويات من تذوق المظهر، وتدرجا للقيم على سطح الحياة".
في كتابه "مجتمع الفرجة"، يرى الفيلسوف الفرنسي غي ديبور أن المجتمع الحديث تحول إلى "مشهد" تحل فيه محل العلاقات الإنسانية الفعلية صور وتمثيلات استهلاكية. في هذا المجتمع يصبح العمل جزءا من هذه الفرجة، ويغدو "قيمة ظاهرية"، وطقسا استعراضيا، و"تظاهرا".
إذا كان العمل في الماضي مرتبطا بـ"الوظيفة الثابتة" (زمن صناعي صلب)، فإن "الحداثة السائلة"، كما يرى زيغمونت باومان، جعلت العمل أداء مسرحيا مستمرا حيث لم يعد الفرد يعرف بوظيفته، بل بما يستطيع عرضه في الحاضر. حتى الوظائف التقليدية تحولت إلى عروض. لم يعد يكفيك أن تكون طبيبا، بل يجب أن تبيع نفسك كـ'براند' طبي وعلامة تجارية على إنستاغرام، كأن قيمة العمل لم تعد تقاس بالإنتاج، بقدر ما تحدد بالمشاركة في لعبة اجتماعية. لهذا فإن بودريار يذهب حتى القول بأنه "في المجتمع الاستهلاكي، حتى العاطلون يستهلكون"، فحتى البطالة أصبحت سلعة تدار بها الخطابات السياسية والإعلامية.
لم يعد الفرد في المجتمعات الحديثة يعاني من أشكال القمع الخارجي، وإنما من أشكال الاستغلال "الذاتي". إنه صنيع "أنظار الآخرين". وهو لم يعد تحت ضغط آخر يستغله، وإنما أصبح مستغلا نفسه، في استعراض دائم لها. كتب الفيلسوف بيونغ تشول هان في كتابه "مجتمع الإرهاق": "في مجتمع العمل والإنجاز الحديث، الجميع يحمل معسكر عمل داخلي".
هذا المعسكر يتميز بأن الفرد هو السجين والحارس في الوقت نفسه، هو الضحية والجاني. فالمرء يستغل نفسه. هذا يعني أن الاستغلال ممكن حتى بدون سيطرة خارجية." العامل اليوم يستغل نفسه بنفسه تحت ضغط "ثقافة الإنجاز". طبيعي أن يتولد عن ذلك نوع من "الإرهاق"، لأننا لا نكف نلوم أنفسنا ونأخذ عليها "عدم إيجابيتها" عوض أن ننتقد ظروف الأنظمة ووضعية العمل فيها. يرى صاحب "مجتمع الإرهاق" أن ما يتولد عن هذه "الإيجابية السامة" من مفعول سلبي أكثر مما يتمخض عن الاستغلال والقمع.
يجسد ذلك أحسن تجسيد أولئك الذين يكسبون قوت عيشهم مما تتيحه قنوات "السوشال ميديا" من تحويل العمل إلى سلعة استعراضية ومشهد تسويقي، وتحويل فرصة المساهمة في الإنتاجية تحقيقا لإنسانية الإنسان، إلى افتعال وهم الانشغال، والخضوع للصور النمطية التي يفرضها النظام الاقتصادي والثقافي السائد، ذلك النظام الذي لا يهمه إلا خلق فرص المشاهدة لإتاحة المجال لمزيد من الإعلانات، وصناعة الذوق والرأي العامين.
عن: مجلة المجلة