البلاغ الصادر عن الخارجية الأمريكية، مساء الثلاثاء 18 أبريل الجاري، بعد اللقاء في واشطن، بين الوزير الأمريكي للخارجية مارك روبيو والوزير المغربي في الخارجية ناصر بوريطة، سيكون له تاريخ في تطوُّرات النِّزاع حول الصحراء المغربية... بلاغ اقتحم ملف النزاع بقوة مُفاعل سياسي بإشعاع دولي...
ليس جديد ذلك البلاغ أن تؤكد الإدارة الأمريكية اقتناعها بمغربية الصحراء... تلك القناعة عبّر عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبل أكثر أربع سنوات، في رسالة رسمية إلى الملك محمد السادس مُخاطبا فيه المملكة المغربية... وهي القناعة التي واصلت رئاسة جو بايدن الممارسة بها، وأخرجتها من سيّاق الصراع والمُشاحنات بين فرقاء السياسة الأمريكية، الديمقراطيون والجمهوريون... ما يعني أن مَغربية الصحراء تمّ تَحفيظها في ثوابت سياسة الدّوْلة الأمريكية...
اعتبار مُقترح الحكم الذاتي الّذي أطلقه المغرب، في مبادرة سياسية حكيمة وشُجاعة، مدخلاً صائبا لبلورة حلّ سياسي، سلمي، واقعي، دائم ومتوافق عليه لنزاع طال نصفَ قرن... ذلك أيضا، ليس جديدا في السياسة الأمريكية التي سنّتها لمقاربة نزاع مَشحون، باحتمالات اشتعال توتّراته في منطقة حسّاسة من خارطة النزاعات الدولية. نزاع في، ويُجاور أو على تماس مع، مواقع جغرافية مُلتهبة وهي بُؤَرٌ استراتيجية، متداخلة تجمع بين حوض البحر الأبيض المتوسط، شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء الإفريقية...
دونالد ترامب، أعلن عن انْحيازه للحقيقة التاريخية المغربية، مُنطلَق المنازعة، التي أكلَت نصف قرن من المناورات الجزائرية، ومن ما يشبه حرْبًا شاملة غير مُعلنة ضد المغرب... أعلن معه ذلك، وانْصرف إلى خوْض مَعاركه الخاصّة والضّارية في أدغال النظام الأمريكي، السياسية والاقتصادية...
عاد ترامب إلى البيْت الأبيض، تملَؤه نشوَة النصر ويُحفِّزُهُ طموحُ العودة بأمريكا لموقع الرِّيادة الأولى في العالم... عاد وفي حقائبه خرائط جديدة للعالم، وفيها طموحٌ لإعادة تشكيل توازنات القِوَى الدولية، كما فيها مئات القرارات للدَّاخل الأمريكي ولصلة أمريكا مع العالم... ولها أو عليها ما هزَّ أمريكا ولم يُقعِدها بعد، وما رجَّ العالم ولم يهدأ بعد... وقد لا يهدأ...
بلاغ الإدارة الأمريكية، بعد لقاء الوزيرَيْن الأمريكي والمغربي، صدَر عن حزمة الانشغال الأمريكي بمحاولة نسْج مُقوِّماتٍ جديدةٍ للوضع العالمي... انشغالٌ حرّك أو يسعى إلى تحريك مَواقع وبُؤَر التوتر والنزاعات في العالم... لذلك أكد على ثوابت السياسة الأمريكية، المُقتنعة بشرعية الحق الوطني المغربي وبجدِّية المسعى السلمي للدولة المغربية... وهو تأكيدٌ هام يسجل إنجازا نوعيا ومؤثرًا للديبلوماسية المغربية... وأضاف، ما يمكن اعتباره الاستعدادَ الأمريكي للتحرك العمَلي في اتِّجاه الدَّفع بِحلِّ نزاع الصحراء، وذلك هو جديد السياسة الأمريكية... حين تقول "أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحلُّ الوحيد الممكن"، وتجدِّد دعوة الأطراف المعنية إلى "الانخراط في مُناقشات دون تأخير، باستخدام المقترح المغربي الإطار الوحيد للتوصل إلى حل متوافق عليه..." ... الحكم الذاتي المقترح الوحيد لإيجاد حل، والدعوة إلى مفاوضات بين الأطراف بدون تأخير، هي المستجدات ذات الدّلالة الهامة والتي تؤشر على أن ديناميكية الحل، ستغد ذيها طاقة عملية نوعية مختلفة تخرجها من بُطئ حركيتها الديبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة... لقد اكتسب مسار الحلِّ، وفي مجلس الأمن أساسا، نُضجا كبيرا والتفافا واسعا، وسلاسة في التقدم، دون اعتراض بالفيتو، ولكنه تقدُّم بطيء... والبُطء ناتج عن أن النزاع في أصله وفي حالته لم يشتعل بالقدر الذي يُثير اهتمام المجتمع الدولي، أو قلقه أو يهدد توازنات القوى داخله...
جديد وضع النزاع ليس فيه فقط أنه أصبح من مشموليات التحوُّلات الدولية التي انخرطت فيها الإدارة الأمريكية الجديدة... فيه أيضا أن القيادة الجزائرية بلغت بها حُمّى هاجس الريادة في المنطقة، الموروث من ظروف ستينيات القرن الماضي، أنها فضلا على عدائها المزمن للمغرب، وسَّعت عدوانيتها على جيرانها، بأن استفزّت مالي، ومعها تحالف دول الساحل والصحراء، وصعَّدت الاستفزاز بغلق المجال الجوي معها وسحب سفيرها من مالي ومن النيجر... وهي على عداء مع المشير حفتر في ليبيا، بما يؤثر على علاقاتها مع كل ليبيا، ويتدخل فيها، بما يُعزِّز اضْطراب أوضاعها وعرقلة استقرارها... ومن تداعيات هذه المُشاحنات، أن الجزائر تضع نفسها في موقع مُنتج للأزمات، وحتى مع حليفها الروسي الذي يُعزِّز نفوذه في المنطقة، خاصة في مالي وفي شرق ليبيا، ستجد نفسها معه في مواجهة تنمي التباعد في المصلحة السياسية بينهما.
الجزائر اليوم في عزلة جغرافية تَضيق وعزلة سياسية تتسع، بحالات التوتُّر التي رعتها مع المغرب أولا، وبسبب المغرب مع دول إفريقية وعربية ومع إسبانيا ومع فرنسا... ذلك ما أفقدها الجاذبية والجدْوى في حسابات القوى الفاعلة في المجتمع الدولي... وعلاقاتها مع الإدارة الأمريكية توَضح ذلك...
رغم الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، نهجت القيادة الجزائرية سياسة تهدئة مع الإدارة الأمريكية... لم تستنكر ذلك ولم تسحب سفيرَها ولم تتوّعدها... حاولت مجاملة الرئيس بايدن وعرَضت نفسها عليه لجعلها مركز اهتمامه في شمال إفريقيا، وأحالت الاعتراف الأمريكي على "مجرد حماقة" من الرئيس ترامب... وعَودة ترامب إلى الرئاسة الأمريكية أربكت القيادة الجزائرية... سفيرُها في واشنطن، صبري أبوقادوم، افْتعل حورا صحافيا في بداية مارس الماضي، عرض فيه أن يكون للتعاون الجزائري الأمريكي "حدود السماء"... فتح الجزائر لما تطلبُه الإدارة الأمريكية من معادن، أراضي، شراكات اقتصادية وخدمات أمنية... مع الأمل بأن ذلك العرض سيُفرمِل التفضيل الأمريكي للمغرب على الجزائر...
وزارة الخارجية الأمريكية، مساء الثلاثاء، "أجابت" القيادة الجزائرية بأنها تفضل المغرب... وستعمل على وقف المنازعة الجزائرية في حقه الوطني والمشاغبة ضدّه، وذلك "بدون تأخير" وعلى أساس أن المُقترح المغربي للحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لمفاوضات الحل النهائي" ... المحاولة الجزائرية لرشوة ترامب بفتح الجزائر له، فشلت، تم إبطالها ببلاغ رسمي وليس بمقال صحفي...
الخارجية الجزائرية ردّت على التصميم الأمريكي "بأدب ديبلوماسي"، أخذت علما بتأكيد كتابة الدولة لموقف الولايات المتحدة الذي يَعتبر الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية كحلٍّ أوْحد لنزاع الصحراء المغربية... وهي تتأسّف لتأكيد هذا الموْقف... هي أخذت علما ولا تملك أن تعترض، فقط "تتأسّف"... والباقي إنشاء ديبلوماسي مفصول عن واقع القضية، ولا يُقنع أحدًا اليوم، من المُتّصلين الفعليين بالنزاع... وهو إنشاء لزوم بيان أسف مكتوب بآلية ديبلوماسية مكرورة، كاتبه، أصلا غير مُقتنع به...
كما قلت في مقال سابق اختيار المغرب للحكم الذاتي مقترحا لحل النزاع حول الصحراء المغربية، أنضج قرارا دوليا ينتصر للحق المغربي وللسلم في المنطقة... وليس أمام الجزائر إلا الامتثال... والباقي مجرد عويل للتأسف على عداء طويل... اتضح أنّه كليل.