انتفض الشعب السوري بعد سنوات طوال من القمع والقهر والمذلة بدأت أول الأمر بانقلاب الجزار حافظ الأسد على الرئيس "نور الدين الأتاسي"، الذي كان قد انقلب بدوره على الرئيس الهادئ المُسالم "محمد أمين الحافظ"، في أواسط ستينات القرن الماضي، لتتحول دمشق الكازينو (نسبة إلى كازينو دمشق الدولي الشهير) إلى مأساة حية، وساحة حمراء، يطحن فيها النظام الاستبدادي مواطنيه ويفرمهم فرماً بأيدي زبانية اشتهروا بمنطقة الشام ببداوتهم الصلفة والجافة، والفاقدة لأبسط مشاعر الإنسانية، خاصة عندما يوظفهم رئيس قصّاب مثل حافظ وابنه بشّار الأسد!!
كنت أقول، انتفض شعب سوريا الصبور بعد أن نفد صبره، وهو الشعب الذي علّمَنا على امتداد خمسينات وستينات القرن الماضي أنه لا يصبر على بغي ولا على هوان، ولذلك عرّف أساتذتُنا سوريا في مراحل التعليم الثانوي ببلد الانقلابات!!
أذكر أن بدمشق مقهىً شهيراً يحمل اسم "الفاروق"، يمارس فيه رواده لعبة النرد، المفضلة لدى الدمشقيين، وهو المقهى الذي كان يرتاده يوميا مسؤولو النظام القائم، وقادة حزب البعث، أيام الراحل ميشيل عفلق، الأب الروحي والمُربّي الفريد من نوعه، والذي وضع لحزب البعث كتاباً أبيض يعج من القواعد والضوابط ما يجعل منه مدرسة سياسية واجتماعية وثقافية بامتياز، فكانت تجتمع بالمقهى أطياف سياسية وإيديولوجية مختلفة، منها المتباعد والمتناحر، ولكن بهدوء وتأدّب لا يفسدان لودّ الاختلاف قضيتَه، يتوعدون بعضهم بعضا بانقلاب وشيك... والغريب والجميل في آن واحد، أن الانقلاب الموعود كان يتحقق فعلاً، وفي موعده المضروب مُسْبَقاً، حتى بعد أن عَلِم معظم رواد المقهى بوقوعه قبل أن يقع، وهذه أيضاً خاصية لا تجدها إلاّ في سوريا الستينات، فكانت الانقلابات تتم بأقل الخسائر وبلا إراقة دماء، وكان السوريون، والدمشقيون خصوصاً يأخذون عِلماً بوقوع أيّ انقلاب جديد في إبّانه، بمجرد ما يلاحظون الحركات غير العادية لسيارات الجيش والأمن والمخابرات، فترى الناس متزاحمين في الصباح الباكر من اليوم التالي على أكشاك الصحف للاطلاع ليس على الخبر، المعلوم مُسْبَقاً، وإنما على تفاصيله، وترى الموالين للانقلاب في نفس مقهى الفاروق مساء اليوم ذاته يسخرون من المُنْقَلَب عليهم وهم يصيحون في نشوة: "ألم نقل لكم إننا قادمون"؟!
والأجمل من كل ذلك، أن خصومهم لا ينفجرون في وجوههم كما تفعل الهوامّ والدوابّ، بل يردّون عليهم بوعيد جديد "بأننا نحن الآخرين عائدون لا محالة"!!
والجميل على هامش كل هذا وذاك، أن تقف عند كل صباح عند بقال الحي أو الزقاق فتجده منغمسا في القراءة وكومة من الجرائد تتراقص بين يديه حتى وهو يلبي طلبات زبائنه ويبادلهم التعليق على ما وقع ويقع!!
والجميل على هامش كل هذا وذاك، أن تقف عند كل صباح عند بقال الحي أو الزقاق فتجده منغمسا في القراءة وكومة من الجرائد تتراقص بين يديه حتى وهو يلبي طلبات زبائنه ويبادلهم التعليق على ما وقع ويقع!!
هذا الشعب السوري المثقف والواعي والعارف بذاته وممكناته، انتفض إذن، وأطاح بنظام بشار الجزار ابن أبيه الجزار، بعد أن قتل مئات الآلاف من الشباب والرجال والنساء والأطفال، وشرّد الملايين أيضاً من الرجال والنسوة والأطفال، وبعد أن حوّل سوريا إلى ساحات خَرِبَة ينعق في جنباتها البوم، وتتعلق فوق ما تبقى من أطلالها ودِمَنِها الخفافيش، مستعيناً على ذلك بقوات روسية ما زال في ثَمالة كأسها شيءٌ من العقلية السوفياتية الراحلة إلى غير رجعة، ومستقوِياً بأنظمة فاسدة وفي قمة الفساد، مثل نظام عساكر الموراديا، بالجارة الشرقية سيّئة السمعة... وهنا مربط الفرس!!
كان نظام الجزائر الاستبدادي يساند الشيطان بشار الأسد بالسياسة والدبلوماسيا، وبالمال والسلاح والرجال، حتى أنه كان يُرسل بانتظام إلى بشار الفأر مقاتلين من مرتزقة البوليساريو بالمئات، ليس فقط ليتدربوا على فنون القتال على أيدي قتلة جيش الأسد، بل أيضاً ليمارسوا ساديتهم وعُقَدَهُم النفسيةَ على الشعب السوري، فيقتلوا منه هم الآخرون ما تيسر، ويَسفِكوا من دمه ما تيسّر، وكل ذلك، للظفر من بشار الأسد باعتراف رسمي بجمهورية الوهم المقيمة بتيندوف المغربية المحتلة، والظفر في الآن ذاته بدعم النظام السوري لبعض العمليات المسلحة اليائسة التي ظل يرتكبها مرتزقة الجزائر الجنوبية ضد صحرائنا، وهي المحاولات التي كانت دائما واستمرت إلى غاية سقوط نظام الأسد لا تسمن مرتكبيها ولا تُغنيهم من جوع!!
وأثناء كل سنوات الدْمار السورية لم يَحِد المغرب، دولةً وأمّةً، عن مناصرة الشعب السوري الجريح، وتضميد نُدوبه جهد المستطاع، واستقبال لاجئيه بما يليق من مبادئ ومظاهر الكرم المغربي، والإحسان إليهم في إطار المواساة والمعايشة، واحتضان مئات منهم طردهم نظام الجزائر إلى حدودنا نكايةً فينا وفي شعب سوريا، ولم يُلقِ المغرب أيّ بال لما كان ذلك يكلفه ماديا ومعنوياً وسياسياً وعلى كل المستويات!!
والآن، وهنا أيضاً مربط فرس هذا المقال وبيتُ قَصيدِه، ينبغي لنا، نحن المغاربة، دولةً وأمّة، أن نطرح السؤال مرة وأخرى ومرّات ومرّات:
- "ما الذي ينتظره الرئيس السوري الجديد والثائر، ليسحب اعتراف سلفه الجزار بجمهورية الجزائر الجنوبية، والمرور رأساً إلى رد الجميل المغربي الذي يتغنى به آلاف السوريين الذي أقاموا بيننا طيلة سنوات الدمار السوري، والذين يصر آلاف منهم على البقاء بيننا بعد أن أتيحت لهم كل فُرَص الاستثمار والمساكنة والمصاهرة، فصاروا منا بمنزلة الأهل والأقارب والأحبّة"؟!
- "ما الذي ينتظره السيد أحمد الشرع بعد أن تسلّم رسمياً مِشعل رئاسة الجمهورية السورية الثائرة، المولودة من جديد، لكي يُعيد عقارب السياسة الخارجية السورية إلى وضعها الطبيعي، والذي لا يمكن ولا يُعقل أن يُشبِهَ في أيِّ شيء سياسة طرطور الجزائر والخائن الأسد"؟!
- "إلى متى سيظل هذا التلكّؤ مُلازِماً مكانَه، حتى بعد أن استتب الأمر بيد رأس النظام السوري الجديد، وحتى بتنا نطالع وزير خارجية الجزائر وهو يحمل نفسه حملاً مُؤلِماً ومُهيناً إلى دمشق ليمارس ألاعيبه البديئة والمعتادة، وليحاول إرشاء رئيس نعلم جميعاً أنه في أشد الحاجة، الآن وأكثر من أي وقت ماضٍ أو قادِم، لملايير الدولارات كي يعيد بناء بلده، ومنظومته السياسبة والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية"؟!
- "هل سيدخل السيد أحمد الشرع معنا في لعبة الشد والجذب للمقارنة بين ما يمكن ربحه أو خسارته عند الميل لأحد الطرفين، المغربي والجزائري"؟!
- "أم هل سيترك فرصة توجيه أقوى ضربة لمن كانوا بالأمس يصفونه بالإرهابي تفوت، ويفتح بوابة البيع والشراء معهم طمعاً في محفظات الغازودولار الملئى عن آخرها، والسائبةِ والمسروقة من مقدّرات شعب الجزائر المُدَجَّن والمسطول، فتذهب بذلك أدراجَ الرياحِ علاقاتُ المساندة والدعم، والمُآزرة والمعايشة، التي ظلت قائمةً بين المغاربة والسوريين على امتداد أكثر من ثلاثة عقود في شبه محاربة مشتركة للنظامَيْن الفاسدَيْن في كل من دمشق بشّار وموراديا العساكر المعربدين العجزة"؟!
- "ثمّ ما الذي يجبر الرئيس الشرع على البقاء هكذا واقفاً وقفة المَغْشِيّ عليه، أمام حقٍّ ينبغي عليه أن يرده ردّاً جميلا للمغاربة الذين آزروه ودعّموه وساندوه إلى أن تسنّى له أن يخلّص وطنه من استبداد المستبدين بكل من دمشق والجزائر"؟!
هذه أسئلتنا فمن يأتي بإجابات شافية؟!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.