الأربعاء 5 فبراير 2025
فن وثقافة

لحسن العسبي: لذة القراءة وتعدد الأصوات في نص «الضريحان»

لحسن العسبي: لذة القراءة وتعدد الأصوات في نص «الضريحان» لحسن العسبي وغلاف «الضريحان» لماء العينين

تتعدد مداخل قراءة نص «الضريحان»، أدبيا واجتماعيا وأنثربولوجيا، بسبب تعدد الأصوات الروائية فيه بذات المرجعية التي نظر لها الناقد الأدبي الروسي ميكائيل باختين التي تقول بـ «بوليفونية الأصوات». دون إغفال باب سيمياء الأدب التي تجعل من «العلامة» دالا يحيل على معان متراكبة.

 

بالتالي فإن قراءة نص «الضريحان» وإعادة قراءته، لا تطرح فقط سؤال تجنيسه أدبيا (رواية، قصة مطولة، حكي)، بل إنها تطرح إعادة ترتيب لخريطة القصص المتراكبة فيه، حيث الشخوص ليسوا مجرد حاملين لقدر حكائي، بل إن صيرورتهم ضمن زمن الحكاية تجعل رسم المعاني مختلفا عن المقاربة التقليدية للبناء الروائي المحدد في حبكة وزمن حكي وشخوص ووقائع.

 

إن مفاوز تلك الخريطة الحكائية، من خلال عملية تفكيك للنسق العام الذي أُسِّسَ عليه النص، هي التي تسمح لنا باستنباط الأسس التي بنيت عليها الحكاية وغاية المعنى الذي تريد أخذنا إليه بغير قليل من الإغراء. ولعل من الشخوص المركزية في نص «الضريحان» شخصية اللغة التي تقوم مستقلة القوام، حيث الجملة لا تُحقق فقط متعة سلاسة البوح (كتقنية في البناء السردي)، بل إنها تهب متعة أعمقَ تتمثل في أن الكلمات والمعاني (الدلالة) لا خصومة بينها، وأن المعنى المعجمي متجانس تماما بين الملفوظ والمخلوق من معنى وصور. هذا لعمري مستوى في التمكن من لغة السرد لا يكون سوى للمتشرب ناصية اللغة في شروطها العربية كبنية لسنية لها دفتر تحملاتها التعبيرية. فاللغة هنا، بالتالي، شخصية قائمة الذات ضمن النص المحكي.

 

إن بنية الجملة (بخلفية المعنى السياقي الذي أنتجه عالم لغة ولسني عربي كبير مثل أبوبكر بن دريد)، قد منحت للنص هوية سردية قائمة الذات، تترجم المرجعية المعرفية والثقافية والتربوية (التكوينية) للكاتب، تلك التي تُتَشَرَّبُ في مفاوز الصحراء مع ألبان الأمهات. فهي هنا قرينة بــ«الهوية» كعلامة. وهذه واحدة من متع القراءة التي يُمكِّنُنَا منها نص «الضريحان».

 

مدخل آخر للقراءة بذات المعنى الباختيني (تعدد الأصوات)، الذي نجد سندا له في واحد من أهم كتب هذا المفكر والناقد الأدبي الروسي المتعلق بأعمال الأديب الفرنسي فرانسوا رابليه (كتاب «أعمال رابليه والثقافة الشعبية»)، نجده في اشتغال النص على العلاقة بين المنطوق والخزان الشعبي للحكي، بالمعنى الذي يفيد أن «الكاتب» بشكل واع أو بدونه إنما يعيد بناء نسق حكايات صَنَعَتْ وعيه ضمن منظومة الثقافة التي ينتمي إليها. هنا في نص «الضريحان» نسعد أننا حكائيا أمام الزخم الهائل للمقول الصحراوي كمعنى وجود، ذلك الذي صنعته وأبدعته أجيال في علاقتها (الكينونية) مع الفضاء بالمعنى الآخر الذي حلله مفكر أدبي آخر هو غاستون باشلار، حيث الإمتداد اللانهائي للبيداء في بلاد شنقيط والحوض ومفاوز الساقية الحمراء ووادي الذهب. أي كامل بلاد البيضان الصنهاجيين المرابطين الحسانيين.

 

إن بنية الحكاية المسنودة بقدر بطلتين (طالبتين) فرنسيتين وتقاطع قدرهما السردي مع سليلي ثقافة بلاد البيضان تلك، تجعلنا لا نفرح فقط بتفاصيل تجارب إنسانية ينسج بينها القدر مكره الخاص (غاية كل حكي روائي في نهاية المطاف)، بل نتلمظ بشغف معنى للتاريخ ومعنى للحضارة عبر باب الصراع والتدافع من أجل الوجود بين الشمال والجنوب، بين مستقو غاصب (مستعمر) وبين مقاوم صلب (صاحب الأرض والعرض والبلد)، ثم بين ثقافة عالمة عقلانية تريد وثقافة صوفية روحية أصيلة هادئة ورصينة (التقابل بين الضابط الفرنسي والشيخ ماء العينين). وأن تطور البنية النفسية السلوكية للأبطال فيه تلاقح بين خصوصية كل مرجعية ثقافية من تلك الشخوص. بل إن تصاعد البناء السردي يكتسب قوته من تداخل الأسئلة الكينونية حتى من خلال تلاقح الثقافات المحلية (السمارة / فاس)، عبر ذات المدخل الذي هو الزواج.

 

من هنا التكثيف العالي الذي يأخذنا إليه نص «الضريحان» للأستاذ ماء العينين، بكل ما يفرضه علينا على مستوى القراءة من تعدد مداخل التأويل، الذي هو ترجمة لتعدد أصوات الحكي. حيث التكثيف يلزمنا شرطا بالتفكيك حتى يسمح لنا التحليل بواسطته بإعادة تركيب ليس النص وحبكته بل المعنى الذي يخلقه تقعد تركيب العلاقات بين الشخوص. وهنا المتعة العالية للقراءة، التي يترجم فعليا المعنى الدال العميق لما تقول به مدرسة النقد الأدبي الجمالي الألمانية (مدرسة كونستانس للتلقي الأدبي) الواهب لـ «لذة القراءة» و«لذة النص».

 

لهذا السبب وتأسيسا عليه، نقول بشكل جازم إن إغراء لذة القراءة متحقق بمسافات في نص «الضريحان».