Saturday 18 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عثمان مخون: إسرائيل..  كيان تبتلعه مرآة الإنكار، أو حين تُخفي دولة الحقيقة عن نفسها

عثمان مخون: إسرائيل..  كيان تبتلعه مرآة الإنكار، أو حين تُخفي دولة الحقيقة عن نفسها عثمان مخون
جدعون ليفي، الصحفي الإسرائيلي المخضرم في صحيفة «هآرتس»، الصوت والقلم الشجاع الذي يقض مضاجع اليمين الفاشي المتطرف الذي يحكم إسرائيل، كرس حياته المهنية لفضح الاحتلال والاستيطان والتهجير وللدفاع عن حقوق الفلسطينيين في وجه ابتزاز اتهامات معاداة السامية.
 طوال أكثر من عامين، ظل جدعون ليفي من بين الأصوات القليلة الشجاعة في الداخل الإسرائيلي التي رفضت صمت الغالبية تجاه مذبحة غزة، ففي ظل واقع كهذا، يبرز سؤال محوري لا يغيب عن ذهن الجميع: كيف يمكن أن تتفاقم مأساة بهذا الحجم وسط غياب الإحساس بالمسؤولية أو حتى الاكتراث من قبل نصف المجتمع الإسرائيلي؟
هنا ملخص لمقال نشره الصحفي والكاتب جدعون ليفي بجريدة لوموند ديبلوماتيك الرصينة بعددها الأخير لشهر أكتوبر.
في هذا المقال الذي عنونه ب "اتفاق أو توافق إسرائيلي على الإبادة الجماعية" يصف جدعون ليفي دولة الاحتلال الصهيوني، منذ انطلاق الحرب على غزة، وكأنها تخوض معركة أخرى موازية لحرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني: إنها معركة ضد الحقيقة. فالإبادة التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية لا تدار فقط بالسلاح، بل أيضا بهجمة إعلامية غير متماسكة تعتمد خطاب الإنكار والتبرير، وتشترك في إنتاجه كل مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام وجزء واسع من مختلف أطياف المجتمع الإسرائيلي.
فالصحافة الإسرائيلية، التي كانت يومًا آخر حجر في جدار الديمقراطية، تخلت عن وظيفتها الرقابية و انبطحت طوعًا للسردية الرسمية، وتحولت إلى ماكينة لتبييض دماء المدنيين الفلسطينيين، فلا مأساة تعلو على المأساة في دعم الرهائن الإسرائيليين، بينما آلاف الأطفال الذين قتلوا وجريمة التجويع الجماعي الممنهجة والدمار المروع الذي ينهش غزة، يتعرض للتغييب والتجاهل أو يُشكك بشكل مقرف في صحته،  فالصور التي تخرج من غزة بفضل صمود وكفاح من بقي على قيد الحياة من الصحفيين الفلسطينيين تُقابل بالتشكيك:  أو الادعاء من قبل آلة البروباغندا الإسرائيلية بأنها «ربما زُيفت»، أو «ربما صُنعت بالذكاء الاصطناعي». وهنا يتحول الإنكار، هنا، ليس إلى ردّة فعل وكفى، بل إلى رهاب جماعي صار يعاني منه مجموع المجتمع الإسرائيلي.
واللافت هنا أيضا أن الرقابة على الصحافة لم تعد مفروضة من السلطة، بل يمارسها الصحفيون على أنفسهم، في توافق غير معلن مع جمهور لا يريد أن يرى، أو فرض عليه ألا يرى ولا يعرف، فالإسرائيلي العادي يفضل الجهل المطمئن على المعرفة المقلقة. 
هذا الانبطاح الذاتي للصحافة الإسرائيلية، يقول ليفي، وأمام صمت الجمهور الذي يرفض الحقيقة، لهو أكبر دليل على العار الذي يجثم على الوعي الجمعي للإسرائيليين أمام جدار من الجهل المريح. هذا التواطؤ الداخلي يجد تعبيره السياسي في حكومة يقودها ائتلاف يميني فاشي متطرف، يضم وجوهًا مثل مجرم الحرب  إيتمار بن غفير، الذي جعل من قمع الأصوات المناهضة للحرب جزءًا من مشروعه الأيديولوجي، و حتى النشطاء اليهود الداعون إلى وقف القتال لم يسلموا من الاعتقال والملاحقة. في مثل هذا المناخ، لم يعد ممكنا التمييز بين دولة تحمي نفسها ودولة تحمي سرديتها. فإسرائيل لا تخوض حربا على غزة فحسب، بل تخوض حربا على صورتها، وعلى الوعي الداخلي الذي قد ينهار إن واجه الحقيقة وجها لوجه.
من جهة أخرى يذكر جدعون ليفي بمساهمة الدعم الأمريكي غير المشروط في منح هذه الحرب شرعيتها المستمرة. فمن إدارة بايدن إلى إدارة ترامب، لم تتبدل القاعدة: تل أبيب محصنة ضد أي مساءلة. وعندما حاولت المحكمة الجنائية الدولية مقاضاة رئيس الوزراء الإسرائيلي، ردت واشنطن بعقوبات على قضاتها، مُكرسة بذلك أحادية سياسية وأخلاقية تجعل القانون الدولي رهينة للمصالح. أما الاتحاد الأوروبي فاختار طريق البيانات الخجولة، مكتفيًا بالاعتراف الشكلي بدولة فلسطينية يعلم الجميع أنها لن تولد قريبا، فالصمت الغربي ليس حيادًا بل مشاركة سلبية في صناعة الكارثة.
لكن هذه الحلقة المفرغة بدأت تضيق. فإسرائيل، وإن بدت محصنة داخليا، تواجه عزلة متنامية في الخارج: مظاهر المقاطعة التراجع في صورة البلد لدى الرأي العام وتزايد الانتقادات في الأوساط الأكاديمية والثقافية. إنها بداية تحول رمزي يذكر بما عاشه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا قبل سقوطه.
في الداخل، لا تزال التظاهرات تنادي بعودة الرهائن وإقالة نتنياهو، لكن الأصوات التي تربط بين الحرب ومصير غزة تبقى هامشية. فالتيارات الفاشية والدينية، التي تغلغلت خلال السنوات الأخيرة في مفاصل الدولة والمجتمع، لن تزول مع سقوط رجل واحد.
ما تكشفه الحرب اليوم هو أن إسرائيل باتت أسيرة لإنكار مخدوم من قبل أجهزة الدولة يحميها من نفسها، ويساعدها على إنكار جريمتها كي لا تواجه حقيقتها، وتستدعي خطاب الضحية لتبرير دور الجلاد. أما العالم، المنشغل بحساباته هنا وهناك فيكتفي بالإدانة اللفظية. لكن المأساة، وقد تجاوزت حدود السياسة، تفرض سؤالا أخلاقيا لا يمكن التهرب منه بعد الآن: من سينقذ غزة؟ ومن سينقذ إسرائيل من نفسها؟