السبل غير القضائية للطعن-
يتيح القانون الدولي طرقا غير قضائية يمكن لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان اللجوء إليها للانتصاف والمطالبة بجبر الاضرار التي لحقتهم نتيجة لارتكاب هذه الانتهاكات.
ويمثل اللجوء الى هيئات المعاهدات (لجان المعاهدات) الآلية غير القضائية بامتياز التي يخولها القانون الدولي لحقوق الإنسان اختصاصات واسعة نسبيا في مجال مراقبة مدى وفاء الدول الأطراف بالتزاماتها وفقا للاتفاقيات التي صادقت عليها، بالإضافة الى تلقي ومعالجة البلاغات الفردية(الشكايات) التي يقدمها المتضررون الى هذه الهيئات طلبا للانتصاف ضد سلطات الدول التي يعتقدون أنها قد انتهكت واحدا أو مجموعة من الحقوق التي تكفلها لهم الاتفاقيات ذات الصلة.
وينبغي التذكير في هذا الإطار ان إسرائيل تعد دولة طرف في سبع اتفاقيات لحقوق الانسان من بين الأدوات الاتفاقية الرئيسية التسع التي يقوم عليها حاليا نظام معاهدات حقوق الانسان للأمم المتحدة، وبالتالي فإن إسرائيل ملزمة بالخضوع لنظام المراقبة والتقييم من طرف اللجان التي أحدثتها الاتفاقيات التي صادقت عليها، والتي تتألف من خبراء مستقلين ومؤهلين لمراقبة مدى احترام إسرائيل بصفتها دولة طرف لالتزاماتها وفقا لهذه الاتفاقيات.
بيد أن الملاحظ بخصوص آلية تقديم البلاغات الفردية، أن إسرائيل حرصت على تبني موقف انتقائي فيما يتعلق بموافقتها على اختصاص لجان المعاهدات في استلام الشكاوى الفردية والنظر فيها ومعالجتها، أو فيما يتعلق بالموافقة على مسطرة البلاغات المتبادلة بين الدول الأطراف في هذه الاتفاقيات. ويتأكد هذا المنحى الانتقائي من خلال لائحة الدول الأطراف في البروتوكولات الاختيارية للاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، إذ يتضح ان إسرائيل لم تصادق على أي بروتوكول اختياري بشأن الاعتراف للأفراد بحق تقديم بلاغات ضد الدول التي يخضعون لولايتها، وبالتالي لا تعتبر أي لجنة للمعاهدات مختصة في تلقي البلاغات (الشكايات) الفردية ضد إسرائيل والنظر فيها.
أما بالنسبة لمسطرة البلاغات المتبادلة بين الدول، فقد أعلنت إسرائيل قبولها اختصاص لجنتين للمعاهدات في تلقي ودراسة هذا النوع من البلاغات، ويتعلق الامر بلجنة مناهضة التعذيب منذ سنة 2018، وبلجنة القضاء على التمييز العنصري التي تنص الاتفاقية المنشئة لها على الموافقة التلقائية للدول الأطراف فيها على إمكانية تقديم البلاغات بين الدول.
ومن ثم، إن إسرائيل قد وافقت على أن تقدم الدول الأطراف حصرا في هاتين الاتفاقيتين (مناهضة التعذيب والقضاء على التمييز العنصري) بلاغات ضدها أمام اللجنتين المعنيتين، مستثنية الأفراد من حق اللجوء إليهما من أجل التشكي والانتصاف.
ولعله من المفيد التذكير أن فلسطين استعملت في 23 أبريل 2018 آلية تبادل الرسائل بين الدول ضد إسرائيل أمام لجنة القضاء على التمييز العنصري وفقا للمواد 11 إلى 13 من اتفاقية القضاء على التمييز العنصري. وقد استغرقت مباشرة هذه المسطرة مدة زمنية طويلة نسبيا ما بين صدور قرار اللجنة في مرحة أولى بشأن اختصاصها للنظر في الرسالة، ثم بتها في مقبولية رسالة لفت النظر الذي وجهته اليها فلسطين، وصولا إلى إحداث هيئة للتوفيق مكلفة ببذل مساعيها الحميدة بغية التوصل الى حل ودي للنزاع بين الدولتين بخصوص ادعاءات انتهاك إسرائيل لعدد من بنود الاتفاقية (أعمال وممارسات سابقة ومستمرة للتمييز العنصري – ممارسة الفصل العنصري –السياسات التمييزية المفروضة على الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة).
ولعل ما يسترعي الملاحظة بهذا الخصوص ، أنه بالرغم من الطابع الإلزامي لمسطرة تبادل الرسائل بين الدول الأطراف طبقا للمادة 11 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري ، والتزام الأطراف فيها بالمشاركة في هذه المسطرة وفقا لمبدأ حسن النية ، فقد نازعت إسرائيل في اختصاص لجنة القضاء على التمييز العنصري ، ورفضت المشاركة في مسطرة التوفيق والتعاون مع الهيئة ، متحججة بكونها أشعرت الأمين العام للأمم المتحدة باعتراضها على انضمام فلسطين الى الاتفاقية بسبب عدم استيفائها للمعايير الضرورية الواجب توفرها في الدولة ، ومعلنة أن انضمام فلسطين الى هذه الاتفاقية لن يرتب أي أثر على العلاقات الاتفاقية بينهما.
غير أن لجنة القضاء على التمييز العنصري لم تقتنع بوجاهة الدفوع الإسرائيلية، حيث أكدت في قرارها بشأن الاختصاص أن فلسطين تعتبر دولة طرف في الاتفاقية، مشدّدة على أن الالتزامات التي تنص عليها الاتفاقية ليست ذات طابع ثنائي بين الدولتين بل تعتبر ذات طبيعة آمرة مما يكسبها قوة الإلزام تجاه الجميع.
وقد أصدرت هيئة التوفيق التي أنشئت استنادا الى أحكام الاتفاقية، تقريرها في غشت 2024 بشأن الإحالة التي توصلت بها لجنة القضاء على التمييز العنصري من فلسطين. وقد حرصت في تقريرها على تحديد ولايتها حصرا في النظر في الانتهاكات المتصلة بالتمييز العنصري التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تشمل الضفة الغربية ومدينة القدس الشرقية وقطاع غزة.
واعتبرت أيضا أن سياق النزاع المسلح الدائر في قطاع غزة، لا يجب أن يؤثر باي حال على حسن تطبيق بنود الاتفاقية، طالما أن حظر التمييز العنصري يعتبر قاعدة آمرة للقانون الدولي، يجب الالتزام بها واحترامها والامتثال لها مهما كانت ظروف النزاع المسلح الدائر، مضيفة أن ادعاءات التعرض للتمييز العنصري التي أثارتها فلسطين في التماسها الى اللجنة تعتبر" نتيجة للسياسات الممنهجة وللممارسات التمييزية للسلطات الإسرائيلية ضد السكان الفلسطينيين منذ عقود في الأراضي المحتلة..."
وبالنظر الى أن حيز هذا المقال لا يسمح بالجرد الوافي للانتهاكات الإسرائيلية لاتفاقية القضاء على التمييز العنصري التي قامت هيئة التوفيق برصدها وتحديدها وتكييفها في تقريرها النهائي ، سوف نكتفي بالتذكير أنها أكّدت أن ترخيص السلطات الإسرائيلية بإقامة مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وتقييدها منح تراخيص البناء للفلسطينيين ، واستمرارها في هدم وتدمير منازلهم ، يؤدي الى تفاقم وضعية التمييز الممنهج تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة ، كما أن القيود المفروضة على تنقل الفلسطينيين ، وفرض ولوجهم المحدود الى الطرق والمعابر ، وحرمانهم من الموارد الطبيعية ومن استغلال الأراضي والاستفادة من التجهيزات الأساسية ذات الطابع الاجتماعي ، ينشئ وضعية للفصل العنصري تجاههم.
وأكّدت الهيئة أيضا في تقريرها أن القضاء على التمييز العنصري يعتبر مسؤولية تتقاسمها جميع الدول الأطراف في الاتفاقية، وأن التسامح أو التغاضي عن السياسات والممارسات الإسرائيلية التي تؤدي الى التمييز العنصري من شأنه إثارة المسؤولية الدولية لكل دولة طرف في الاتفاقية.
وختمت الهيئة تقريرها بتوجيه مجموعة من التوصيات الى إسرائيل من أهمها فيما يتعلق بسبل جبر الأضرار، أن تتخذ إسرائيل باعتبارها طرفا في اتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري، كافة التدابير اللازمة لضمان تمتع جميع ضحايا التمييز العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة بكامل حقوقهم في اللجوء الى القضاء المختص، وفي الحصول على تعويض عادل ومناسب أو ترضية عادلة مناسبة عن أي ضرر لحقهم نتيجة لهذا التمييز وفقا للمادة 6 من الاتفاقية.
خاتمة
مما لا ريب فيه أنه من الصعوبة بمكان التنبؤ بآثار وانعكاسات الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 19 يوليوز 2024، وبما يمكن أن يتمخض عنه في غضون السنوات القادمة وفي سياق تداعيات النزاع الفلسطيني –الإسرائيلي على الصعيد الدولي. بيد أن ثمة احتمال قوي ألا ينحصر نطاق ومضمون هذا الرأي في معاينة الطبيعة غير القانونية لاحتلال الأراضي الفلسطينية من طرف إسرائيل، وعدم مشروعية سياساتها وممارساتها من زاوية القانون الدولي لحقوق الانسان.
فعلى خلاف النطاق المحدود للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في سنة 2004 حول التبعات القانونية لبناء الجدار الفاصل على الأراضي الفلسطينية المحتلة، إن الرأي الصادر في يوليوز 2024، أكّد ثبوت انتهاكات للقانون الدولي على نطاق واسع، تكتسي خطورة غير مسبوقة من شأنها أن ترتب آثارا وانعكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وقضائية.
ومن المؤكد أن القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة في 18 دجنبر 2024 (بعيد صدور الرأي الاستشاري) الذي تطالب فيه إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية في غضون مدة أقصاها 12 شهرا من تاريخ اتخاذ هذا القرار، وتدعوها الى الامتثال دون إبطاء لجميع التزاماتها بموجب القانون الدولي -بما في ذلك على النحو الذي تنص عليه محكمة العدل الدولية - يعتبر انعكاسا واضحا وقويا للآثار والنتائج الممكنة للرأي الاستشاري الصادر في 19 يوليوز 2024.
د. محمد العمارتي / أستاذ جامعي سابق للقانون الدولي بكلية الحقوق – وجدة