الأحد 16 فبراير 2025
كتاب الرأي

إدريس الفينة: إيران ومآسي العرب.. استراتيجية التمدد وأثمانها الباهظة

إدريس الفينة: إيران ومآسي العرب.. استراتيجية التمدد وأثمانها الباهظة د.إدريس الفينة
منذ ثورة 1979، تبنّت إيران استراتيجية توسعية تعتمد على إنشاء ما يمكن وصفه بـ”محاور المقاومة” أو “الأذرع الإقليمية”، بهدف تعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط ومواجهة الضغوط الغربية والإسرائيلية. هذا التوجه لم يكن مدروسًا بشكل شامل بل جاء كتفاعل مع الضغوط الدولية والمحلية أكثر من كونه استراتيجية واضحة المعالم. والنتيجة كانت شبكة من الحركات المسلحة والجماعات السياسية التي تعمل بالوكالة، أبرزها في لبنان، العراق، اليمن، وسوريا. لكن هذه السياسة، التي قد تبدو نجاحًا على المدى القصير، كشفت عن محدوديتها وألحقت أضرارًا جسيمة بدول المنطقة وبإيران نفسها.

منذ عقود، سعت إيران إلى استخدام هذه الأذرع كورقة ضغط في مواجهة القوى الغربية. فقد دعمت حزب الله في لبنان ليكون ذراعها العسكري والسياسي الأقوى في المنطقة، وموّلت جماعات شيعية في العراق لتعزيز نفوذها بعد سقوط نظام صدام حسين. في اليمن، دعمت الحوثيين لتعزيز وجودها بالقرب من الحدود السعودية وتوسيع نطاق نفوذها. وفي سوريا، تدخلت مباشرة لدعم نظام الأسد في مواجهة الثورة الشعبية التي اندلعت عام 2011. كانت الفكرة الأساسية أن وجود هذه الجماعات المسلحة يوفر لإيران موقعًا متقدمًا في التفاوض مع الغرب، خصوصًا فيما يتعلق ببرنامجها النووي والعقوبات الاقتصادية. واعتقدت إيران أن هذا التوسع سيمنحها حصانة جيوسياسية ويجعلها لاعبًا إقليميًا لا غنى عنه.

لكن هذه الاستراتيجية جاءت بتكلفة ضخمة على عدة مستويات. على صعيد الدول العربية المعنية، أدى تحكم حزب الله بالمشهد السياسي في لبنان إلى شلل اقتصادي وانهيار الدولة، حيث أصبح لبنان دولة عاجزة عن تلبية احتياجات شعبها. في العراق، ساهمت الميليشيات المدعومة من إيران في تكريس الانقسامات الطائفية وعرقلة بناء الدولة بعد سقوط داعش. في اليمن، حوّلت الحرب الحوثية البلاد إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، ما أدى إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة. وفي سوريا، تسبب التدخل الإيراني في إطالة أمد الحرب، مما أدى إلى مقتل وتشريد الملايين بل وانهيار النظام القائم.

على صعيد آخر، استنزفت إيران مواردها بشكل كبير لدعم أذرعها في الخارج، رغم العقوبات الاقتصادية الخانقة التي تواجهها. هذا الاستنزاف أثر سلبًا على الاقتصاد الإيراني وأدى إلى احتجاجات شعبية متكررة داخل إيران نفسها. كما أن السياسات الإيرانية تسببت في انحسار التأييد الشعبي في العالم العربي، حيث كانت إيران تُروّج نفسها كمدافع عن قضايا الأمة الإسلامية، خصوصًا القضية الفلسطينية. لكن ممارساتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن جعلت الشعوب العربية ترى فيها قوة احتلالية أكثر من كونها داعمة لقضاياهم.

كشفت الأحداث الأخيرة عن هشاشة هذه الاستراتيجية. فقد تعرضت الأذرع الإيرانية لسلسلة من الضربات العسكرية والسياسية. في العراق، تزايدت الدعوات لتفكيك الميليشيات المرتبطة بإيران. في اليمن، أدى الضغط العسكري من التحالف العربي إلى تحجيم نفوذ الحوثيين. في لبنان، أصبح حزب الله محاصرًا شعبيًا وسياسيًا نتيجة الأزمة الاقتصادية والسياسية. وفي سوريا، تصاعدت الانتقادات للتواجد الإيراني، مما يهدد استمرار نفوذ طهران هناك.

إلى حدود هذه الساعات، يلوح في الأفق اتجاه واضح لسقوط نظام الأسد في سوريا، وهو أحد أبرز الأذرع التي استثمرت فيها إيران على مدى سنوات. يمثل هذا التطور ضربة قاسية لاستراتيجيتها الإقليمية، ويعزز الانطباع بمحدودية نفوذها في مواجهة المتغيرات الدولية والإقليمية.

أدت الاستراتيجية الإيرانية إلى خلق مآسٍ غير مسبوقة في الدول العربية التي تدخلت فيها، وجعلت من المنطقة بركانًا دائم الاشتعال. بدلاً من تعزيز موقعها، أصبحت إيران معزولة دوليًا ومحاصرة إقليميًا، بينما تتحمل الشعوب العربية الثمن الأكبر لهذه السياسة. الطريق إلى المستقبل يجب أن يبدأ بتغيير جذري في التفكير الإيراني، يقوم على بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل مع الدول العربية، بدلاً من محاولة فرض الهيمنة عبر وكلاء مسلحين. أما بالنسبة للدول العربية، فالتحدي الأكبر يكمن في بناء أنظمة قوية تُغلق الباب أمام التدخلات الخارجية وتؤسس لاستقرار حقيقي في المنطقة.