الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد العزيز المنتاج: الثورة المعلوماتية والحاجة إلى التربية الإعلامية (3)

عبد العزيز المنتاج: الثورة المعلوماتية والحاجة إلى التربية الإعلامية (3) عبد العزيز المنتاج

4 ـ الحاجة إلى التربية الإعلامية في المغرب

يعتبر المغرب من بين دول العالم المؤهلة للاندماج والانخراط في المجتمع الدولي، وذلك بفعل عوامل جغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وقد سعى المغرب مبكرا لهدم الهوة الرقمية والانفتاح على الثورة الرقمية، سواء بنشرها وإتاحتها للجماهير، أو من خلال محاولة اللحاق بالدول المتقدمة التي قطعت أشواطا كبيرة في الرقمنة وعلى جميع المستويات. وخاصة على مستوى الانتشار الإعلامي الذي عرف انفجاراً كبيرا وتدفقا هائلا، تمثل في ظهور ملايين الصفحات الشخصية، وآلاف المواقع والقنوات الخاصة، وتجدر الإشارة إلى أن المغاربة من أكثر الشعوب العربية استعمالا لوسائل التواصل الاجتماعي. كما أنهم يقضون معدل ساعتين ونصف يوميا في تصفح هذه المواقع، إن هذا التمكين التكنولوجي يجعل المغاربة وخاصة الشباب عرضة لتدفقات لانهائية من المعلومات والرسائل الإعلامية، بشكل لا يمكن التحكم فيها أو مراقبتها، تقول شارلين بورتر (Ch.Porter): " تسمح تكنولوجيا وسائل الإعلام الجديدة للناس العاديين بخلق معلومات لا تكتشفها وسائل الإعلام التقليدية"، وما يزيد من الإقبال على هذه الوسائل الإعلامية الجديدة أنه يعطي للأفراد كما تقول ماريا جيورجيو مجالا للتواصل لا يعطيها لهم الإعلام المسيطر".

إن هذا التدفق الإعلامي له ايجابيات لا حصر لها، لكنه في الوقت نفسه، له انعكاسات سلبية على الفرد والمجتمع، وخاصة في صفوف الأطفال والشباب الذين يبقون أكثر عرضة لمخاطر الإعلام والمعلومات، وبالتالي أكثر عرضة للانحراف والتطرف والعنف والانسلاخ الهوياتي وفقدان النموذج والابتعاد عن القيم النبيلة، ناهيك عن ترويج الإشاعات والتضليل والإساءة للآخرين والإباحية ونشر الكراهية. وللحد من هذه المخاطر يجب الإسراع باعتماد التربية الإعلامية ضمن المناهج الدراسية ولجميع المستويات، فأطفال المدارس الابتدائية يجب أن يدرسوا تربية إعلامية تقربهم من أنواع وسائل الإعلام وأنواع الرسائل الإعلامية، مع التركيز على مخاطر الإعلام والمواقع التي يجب أن يبتعدوا عنها، بالإضافة إلى تعليمات ونصائح يتم التركيز عليها عند استعمالهم للصفحات الشخصية، كحماية الحقوق الخاصة والمعلومات الشخصية، وحسن التعامل مع المعلومات والمعارف والوسائل والأشخاص.

أما تلاميذ الأسلاك العليا، كالإعدادي والثانوي فيجب أن تقدم لهم التربية الإعلامية ضمن المقررات الدراسية مع التركيز على أنواع الإعلام وأنواع الوسائل، وكيفية تحليل المضامين الإعلامية، وقراءتها قراءة مشككة وناقدة، بتمكينهم من ثقافة إعلامية تؤهلهم لمعرفة مالكي الوسائل الإعلامية وتوجهاتهم وخطوطهم التحريرية، وامتلاكهم استراتيجيات فك الرسائل الإعلامية وخطاباتها بدءا من الصور والعناوين والمضامين، حتى لا يقعوا ضحية للتدجين والإغراءات الإيديولوجية بشتى أنواعها.

لقد عاش المغاربة مناسبات كثيرة وقفوا من خلالها على ضرورة خلق وعي إعلامي، يحمي الأفراد والمجتمع من التضليل الإعلامي وتصديق الإشاعات، أول هذه المناسبات، ما عاشه المغاربة خلال وباء كورونا وما رافقه من فزع رهيب، حيث تناسلت الإشاعات، وكثرت البلاغات الكاذبة، وعجت مواقع التواصل الاجتماعي برسائل و صور و فيديوهات زادت من نشر الهلع بين السكان، ناهيك عن انتشار الاوديوهات الكاذبة التي تروج لأخبار زائفة، كما انتشرت فيديوهات لمواطنين ينشرون الخرافات وقدرتهم على معالجة كورونا بالأعشاب وأوراق الأشجار، وأن هناك أشخاص يعالجونها بالطب التقليدي. نفس الشيء حدث خلال زلزال الحوز الذي ضرب المغرب في شتنبر 2023 ، والذي نشطت فيه الأخبار الزائفة والعناوين المضللة التي أثرت على السلم الاجتماعي، مثل ظهور أوديوهات وانتشارها على نطاق واسع بين السكان، تخبرهم بضرورة مغادرة بيوتهم أو المبيت خارجها، كما ظهرت فيديوهات مركبة لأشخاص يدعون أنهم علماء زلازل، وهم يعلنون أن هناك ارتدادات ستحدث في أوقات معينة، وأن بعضها قد يسبب في تسونامي، هذه الأخبار الكاذبة تسببت للسكان في الكثير من المتاعب وأصابت الكثير منهم بفوبيا وأمراض نفسية اضطروا معها لمتابعة علاجات نفسية، غير أنها من جانب آخر قد أعادت الاعتبار ولو بشكل مؤقت، للإعلام التقليدي أو الرسمي حيث لجأ المواطنون وأمام تناسل الإشاعات إلى التلفزيون للتأكيد مما تصدره الدولة من بلاغات.

ومن الأحداث التي عاشها المغاربة خلال نهاية 2023 موجة الحراك التعليمي التي ارتبطت بإضراب أساتذة المغرب لأزيد من ثمانية أسابيع، والتي تخللتها أحداث غيرت من طبيعة الصراع بين الاساتذة والحكومة، والغريب أن الكثير منها كان عبارة عن أخبار كاذبة وإشاعات تم ترويجها على نطاق واسع، اضطر معها بعض الوزراء إلى تكذيبها، كما لجأت بعض الصفحات إلى الرجوع إلى فيديوهات قديمة وأعادت نشرها من جديد، ما شجع على تداولها على نطاق واسع، وكأنها تصريحات آنية مرتبطة بالأزمة الحالية، وقد وقع الكثير من الاساتذة ورجال الإعلام أنفسهم ضحية لهذه المنشورات دون تحري صدقيتها وتاريخها، سواء من خلال  فحصها وفحص تاريخها، أو من خلال تحليل مضامينها ، والانتباه إلى كونها غير مرتبطة بإضرابات الأساتذة، وتتجلى خطورة مثل هذه الممارسات في كون الكثير من الناس يسارعون إلى مشاركتها بحسن نية، ولا يتراجعون عن نشرها إلا بعد أن يكتشفوا أنها قديمة، لكن بعد أن تكون قد انتشرت جماهيريا وبشكل كبير.

في الأخير نشير إلى بعض الأحداث التي تعضد فكرتنا والتي تؤكد خطورة وسائل الإعلام ومخاطره على الأفراد، كانتشار بعض الفيديوهات التي تظهر مشاهد قتل أو اغتصاب ونسبتها إلى مدن و أحياء مغربية، أو بنشر صور لاعتداءات أمنية على مواطنين، وهو ما يفرض على المسؤولين إصدار بلاغات تكذيبية، نفس الأمر خلال الحروب حيث تنشأ حرب إعلامية موازية لا أخلاقية، كأن تنشر فيديوهات من دول أخرى وتنسب للدولة المستهدفة، وهو ما يقتضي من الجماهير الكثير من الحصانة والثقافة الإعلامية، لفهم المغزى من الرسالة الإعلامية وخلفياتها، بتحليلها سيميولوجيا ولغويا وتقنيا، للتأكد من صدقيتها والغاية منها.

5 ـ ماذا ندرس في التربية الإعلامية؟

إذا كانت المنظمات الدولية وعلى رأسها اليونسكو تشدد على ضرورة إدخال التربية الإعلامية إلى المناهج التربوية وضمن أنظمة التعليم غير الرسمية، لإعداد الجماهير لفهم الثقافة الإعلامية، وتعلم كيفية التعامل معها والمشاركة فيها بصورة فعالة وإيجابية، فماذا يجب علينا أن ندرس للتلاميذ والطلبة لتحقيق هذه الغايات والأهداف؟

5 ـ 1ـ الصحافة المكتوبة

يفترض في التربية الإعلامية أن نقدم للشباب ثقافة عامة حول تاريخ الصحافة وعصور ازدهارها حتى نهاية القرن العشرين، وكذلك التعرف على ما يميزها كنوع إعلامي، وخاصة ما يرتبط بأساليب التحرير الصحفي وأنواعه، وباقي الأجناس الصحفية مثل الخبر والمقال ومقالات الرأي والتحرير والتحقيق والاستطلاع والحوار، وما يتحكم فيها من أسلوب وطريقة كتابة، وما يرافقها من عتبات كالعناوين والصور، وهذا كله رهين بمعرفة نوع الصحيفة واتجاهها وخط تحريرها والجهة التي تصدرها.

5 ـ 2 ـ الإعلام الإذاعي

يجب أن يطلع المتلقي سواء كان تلميذا أو طالبا على تاريخ مختصر حول الإذاعات وأهميتها وأدوارها التاريخية، كما يجب أن نقدم له نبذة عن البرامج الإذاعية وطبيعتها ومميزاتها وكذلك نشرات الأخبار، مع اطلاعه على نوع الإذاعة واتجاهها والجهة التي تمتلكها لمعرفة توجهها والخط التحريري الذي يحكمها.

5 ـ 3 ـ الإعلام التلفزيوني

يعتبر التلفزيون أنجح وسيلة إعلامية على الإطلاق، أولا باعتباره وسيلة إعلامية جماهيرية، وثانيا لأنه بالغ التأثير، وأن هيمنته طغت على كل وسائل الإعلام الأخرى لأنه يفرض عليها زاوية النظر كما قال بيير بورديو، ولهذا عرف نجاحا استثنائيا. يقول دومنييك وولتون "عرفت التلفزة نجاحا استثنائيا خلال النصف الثاني من القرن 20، فالكل يشاهدها وينتقدها ويحذر منها، لكن دونما قدرة على الاستغناء عنها"، وتتجلى خطورة التلفزيون أنه ينتج ما يسمى بأثر الواقع ويدفعنا لأن نثق أكثر، إنه قادر على إعطاء التمثلات وجودا أكبر، كما أنه يخفي الحقيقة ويظهر ظلالها.

فالتلفزيون يخفي المعلومات والأخبار الأكثر أهمية بتركيزه على الأخبار العامة والتافهة، لهذا و أمام خطورة هذه الوسيلة الإعلامية الكثيرة التأثير، يجب أن تمكن التربية الإعلام الأفراد من امتلاك ثقافة تلفزيونية تساعدهم على التعرف على أنواع إلى البرامج التلفزيونية، من أخبار مباشرة، وبرامج حوارية ومجلات وتحقيقات واستطلاعات و إنتاجات وثائقية، وكيفية فهمها وفك رسائلها ومعرفة خلفياتها وغاياتها وإلى أي اتجاه تريد توجيه المتلقي، وهذا لن يتأتى إلا بتعليم المتلقي معارف أولية حول الصورة، وأنواع اللقطات وتقنيات التصوير وزوايا الكاميرا، وطریقة توزیع وترتیب الأخبار والأسئلة والقاموس اللغوي المستخدم من طرف المقدمين والضيوف، بالإضافة إلى تكوين فكرة مسبقة عن الضيوف أنفسهم، ناهيك عن مالكي القناة وتوجهاتها وخطها التحريري ومدى استقلاليتها

 

5 ـ 4 ـ الإعلام الجديد أو الرقمي

ما يزيد من خطورة الإعلام الجديد أنه أكثر تخلصا من الرقابة التي تفرضها الدول على وسائل الإعلام، وأكثر تحرراً من المسؤولية المؤسساتية، إذ يصعب على المتلقي معرفة معلومات مفيدة عن صاحب الوسيلة الإعلامية ومالكها، سواء كانت موقعا الكترونيا أو إذاعة أو قناة رقمية أو صفحة شخصية، وخاصة في ظل الانتشار الكبير واللانهائي لهذه الأنواع الإعلامية التي أصبحت تغرق المتلقي في بحر لا نهائي من الأخبار والمعلومات، علما أن عدم معرفة صاحب الوسيلة يجعل من الصعب معرفة توجهها وخطها التحريري وغايتها.

وما يزيد من هذه الصعوبة أن الكثير من هذه الوسائل الإعلامية تعتمد أسماء وهويات مستعارة، وتقدم معلومات وأخبار بعيداً عن أخلاقيات المهنة ولأهداف وغايات غير نبيلة أحيانا، محتكمة فقط للنية السيئة والإساءة ورفع نسب المشاهدة، وأنها تقتحم على المتلقي عالمه الخاص، وبشكل هجومي ولا إرادي.

أمام هذا الوضع الخطير يبقى على التربية الإعلامية ولمواجهة هذه الخطورة، التركيز على آليات واستراتيجيات أخرى، كالتركيز على تحليل المحتوى الإعلامي، بناء على الصور واللغة المستعملة والمنطق الذي يحكم الرسالة الإعلامية، وبالتالي مواجهتها بعقل ناقد مشكك، والبحث في خلفيات الرسالة الإعلامية وصورها  ومعانيها، مما يؤكد صحتها أو يضعها في خانة التضليل ونشر الإشاعة و الكراهية وتهديد السلم والأمن الاجتماعيين، بمعنى استعمال كل الأساليب الممكنة للتحقق من الرسالة ومحتواها وغاياتها وأهدافها قبل أخذ موقف أو حكم منها .

يتبع