بدأت أعمال الفاعل البشري الافتراضي وصنائعه المهلكة، المادية منها والمعنوية، تفيض على الجيل الجديد وتمارس تأثيراتها الضخمة؛ المجتمعية والسياسية والأمنية، وتطرح أسئلة مرتبكة ومصيرية على المعنيين بالشأن السياسي والفكري والثقافي تهم مستقبل "الحضارة الرقمية" التي تعيد تشكيل العالم بسلطة فوقية. ومنطلق كلامي من خبر جديد أعلنت عنه المديرية العامة للأمن الوطني، والتقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
يشير الخبر إلى أن "منصة "إبلاغ" التفاعلية المخصصة للتبليغ الفوري عن المحتويات الرقمية غير المشروعة على شبكة الإنترنيت قد عالجت خلال ثلاثة أشهر الأولى منذ انطلاقها ما مجموعه 7083 إشعاراً بشأن قضايا إجرامية مختلفة، تتمثل في مختلف الجرائم المرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة والتحريض والإشادة بأعمال إرهابية وانتهاك حقوق وحريات الأطفال القاصرين والتهديد بالمساس بالسلامة الجسدية للأشخاص والنصب والاحتيال والابتزاز". ويعتبر التقرير أن استعمال التكنولوجيا الرقمية "بشكل مفرط وغير ملائم يمكن أن تكون له عواقب وخيمة مؤكدة على الصحة النفسية والجسدية للأطفال" على المستوى النفسي والسلوكي. ومن بين هذه الآثار السلبية: القلق والانغلاق على الذات والعزلة وإيذاء الذات واضطرابات النوم ومشاكل التركيز والاكتئاب ومحاولات الانتحار" .
يؤكد الخبر والتقرير أن الوضع ليس على حال أفضل، وأن الإجرام الافتراضي بات يهدد النسق المجتمعي، وإذا أخذنا بعين الاعتبار خصوصيات السياق الافتراضي يمكن أن نضيف صفات جديدة لهذا الإجرام وهي: السرعة وضيق الفجوة الزمنية، والتنوع حسب طبيعة الجمهور المستهدف: يقول إيهاب خليفة :"يتطور في هذا الجيل شكل الهجمات السيبرانية بصورة سريعة، فقد تكون مرة عبر أجهزة الحاسب، ومرة عبر إنترنيت الأشياء، ومرة عبر أجهزة الهواتف المحمولة، ومستقبلا قد يكون عبر الذكاء الاصطناعي والروبوت، بحيث يستهدف في أحدها الأموال، وفي مرة أخرى الاعتراض السياسي أو الإرهاب، وفي غيرها العنف غير المبرر".
إن هذا الانقلاب في نمط التفكير وخلخلة القيم يدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم "النظام العام" " من الناحية الفلسفية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية والأخلاقية، فالأفاق الفردوسية الافتراضية التي تغري بها التكنولوجية "سوبرمانها" الكسول والمنفلتة من الرقابة الأخلاقية زعزعت بوصلته، ويبدو هذا الانقلاب محكوما بهدفين: الأول؛ تدمير الوعي الجمعي وخلخلة التوازن الاجتماعي المغربي، والآخر؛ ترسيخ خطاب الفرقة وتقويته بالتعالي على كل المكونات التي تتركب منها الهوية المغربية، مما يساهم في ضعفها.
وإذا كنا نؤمن أن التكنولوجيا ليست مؤقتة، وإنّما هي مرحلة من التاريخ الإنساني، والحرية المطلقة التي يتمتع بها الأفراد من شأنها أن تهدد الاستقرار الاجتماعي والعاطفي والعقلي، وهو ما يمكن أن يجعل المجتمع منحرفا ويقوض الحبل الرابط بين الفرد ومؤسساته الدينية والدنيوية، فإن ذلك يدعونا إلى البحث عن آلية تنظيمية وأخلاقية تحكم عملها وصياغة قوانين تضمن الحفاظ على حقوق البشرية وضبط نظامها العام.
النظام العام مفهوم قانوني معقّد، ولا يوجد تعريف جامع مانع حوله، وتكمن صعوبته في خصوصيات المجتمعات، وسوء تدبيره بتنزيل بعض بنوده بشكل حرفي دون الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية والعالمية للمجتمع يمكن أن يؤدي إلى المزيد من الاحتقان، إنه ليس مجموع القوانين الوضعية التي يمكن إسقاطها على مجالات معينة؛ وإنما يجب أن ينبثق من داخل المجتمع نفسه وخصوصياته المحلية، دون نسيان التحولات المجتمعية الجديدة.
من الناحية الفلسفية، يعتبر النظام العام عقدا اجتماعيا بين الأفراد والدولة، يتنازل فيه الأفراد على بعض من حقوقهم مقابل تأمين العيش المشترك. لقد تحدث عنه جون جاك روسو في كتابه " العقد لاجتماعي"، وتلخص قولته الشهيرة: "يولد الإنسان حراً، ويوجد الإنسان مقيداً في كل مكان، وهو يظن أنه سيّد الآخرين"، ذلك الانتقال من حال الطبيعة (الحرية المطلقة = الخوف)، إلى حال الثقافة (القيود = العبودية من أجل العيش بأمان). لقد كانت البشرية في حاجة إلى عقد اجتماعي يزن الحرية المطلقة بالأهداف التي تخدم العامة، وحين اختل هذا التوازن تقلص مجال الحرية في المقابل اتسع مجال الرقابة، نتج عن ذلك حالة من الضيم الإنساني، تم معيَرة هذه الحال، في الفلسفة والأدب والفن بمفهوم "الاستلاب".
لقد تحولت الرقابة، في المجتمع العربي، إلى فخ لصيد المتمردين، في الدين، والجنس، والسياسة، ونتج عن ذلك مكبوت بنى متخيلا عربيا مسلوبا لشعب مقهور، والشعب المقهور ـ حسب تعبير روسو ـ "غير ملزم نحو مولاه بغير طاعة ما أكره عليه". وكرسته الأنظمة الدكتاتورية والإيديولوجيات بالقوة والقمع والخوف، وهو ما ولّد فردا متمردا ومتعطشا لكسر هذه الحدود التي رسمتها الرقابة، أي المقموع الأبوي. ومثقلا بنزعة الانتقام من مكبوت أبيه الذي يفرض عليه سلطانه. من وجهة نظر سيكولوجية، هو صراع الابن المراهق مع الأب المقهور.
وإذا كان الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة إلى التمرد بنى عقدا اجتماعيا حقق فيه الإنسان ذاته وقناعاته وطمأنينته وثورته، فاليوم، في الافتراضي، تبني الجماهير عقدا اجتماعيا "مثيرا" تحقق به نخبويتها الافتراضية؛ وهو ما يبرر ازدهار المثيرات الشاذة ونجومها، والتي أصبحت تقود البشرية نحو التميز والظهور بشكل مختلف، ومايبرر الانتقال المشوه هو ازدهار الثقافة الضعيفة، ثقافة الرعاع، واجترارها يمنحها طابع التوكيد والإثبات، وهذا الفعل تقوم به خوارزميات البيغ ذاتا، مما يجعلها مساهمة في خلخلة النظام العام الواقعي وتكريس النظام العام الافتراضي. يضاف إلى ذلك، القناع الهوياتي الذي يرتديه الأفراد في المجتمع الافتراضي.
من السذاجة إنكار هذا التحول الذي ولد بوعي جمعي مسلوب، يحمل عقدا اجتماعية ونفسية وسلوكية، وانتقلت عدواها إلى مدمني هذه الوسائط الافتراضية، ووفقا للتقرير السابق الذي قام به المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والذي أجري على 1293 طفلا وشابا تتراوح أعمارهم بين 8و28 عاما، " تبين أن 80 في المائة من الأطفال والشباب في المغرب يستعملون الإنترنيت، و70 في المائة منهم يلجون إلى شبكات التواصل الاجتماعي، ويفيد البحث أن 43 في المائة من هذه العينة تعاني من اضطرابات النوم، و35,6 في المائة لديهم خلافات مع العائلة أو الأصدقاء و41,5 في المائة منهم شهدوا تعثرا في نتائجهم الدراسية".
إن هذه الأرقام المخيفة والمثيرة للذعر تؤكد بأننا في حاجة ماسة إلى "نظام عام افتراضي" ينظم علاقات الأفراد داخل المجتمع الافتراضي، تقوم سلطته على أساس تراتبي، وتراعى فيه مستجدات العصر في التعبير والتواصل، وتحفظ فيه العقائد والرموز بالقياس إلى المشترك المغربي، وفي الوقت نفسه يحد من الإجرام وهيمنة التفاهة وقيم العشيرة والإهانة، وتسيّد النجوم المتمردة والتافهة والمريضة.
إن سنن النظام العام الافتراضي الذي ننشده هو ذلك النظام الذي يستند إلى قوانين تنظيمية وأخلاقية ودينية واجتماعية واقتصادية... تراعى فيها البساطة والوضوح والاختصار حتى يستوعبها الوعي الافتراضي بيسر، وتضمن الديمقراطية وتنشر ثقافة الفضيلة، وتخفف من عنف الأفراد وتحترم الحقوق والحريات، وتحد من اقتراف الجرائم، بمعاقبة الأشرار ومحاربة الاعتقادات السلبية مثل: التعصب والنصب والشتم والترهيب...إلخ، وهو ما سيمنح الدولة طابعا عضويا فاعلا وقويا في مواجهة المخاطر الداخلية والنزعات الخارجية السامة، كما أنه سيؤجل وفاة الفاعل السياسي والمدني، ويمنح قوة للمؤسسات، بواسطة تقنية مؤسساتية رقمية، تجعل من إدراك الحقوق ميسورة، حتى نبني للأجيال الصاعدة مناعة المقاومة ضد الطوفان الافتراضي، تمكنها من التعايش مع الحضارة الرقمية بشرف ونبل لا مكر ودهاء.