الجمعة 15 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

كوثر جلال:تعليق حول المادتين 30 و375 من مشروع قانون المسطرة المدنية

كوثر جلال:تعليق حول المادتين 30 و375 من مشروع قانون المسطرة المدنية كوثر جلال
في إطار مناقشـة مشروع قانون المسطرة المدنيـة، يتبين باستقراء المادة 30 منه أن النزاعات التي لا تتعدى قيمتها 30.000 درهم ستبت فيها المحاكم الابتدائية ابتدائيا و انتهائيا، أي أن الأحكام الصادرة في هذه النزاعات ستصير غير قابلة للطعن بالاستئناف، والحال أنه طبقا للمقتضيات الجاري بها العمل حاليا (قانون قضاء القرب و قانون المسطرة المدنية)، فالأحكام الصادرة في النزاعات التي لا تتجاوز قيمتها 5.000 درهم فقط (و التي تخضع لاختصاص قضاء القرب) هي التي لا تقبل الطعن بالاستئناف، مع الإشارة إلى أن الأحكام الصادرة في النزاعات المتعلقة بمدونة الأسرة و العقار و القضايا الاجتماعية و التي تخرج عن اختصاص قضاء القرب قابلة للطعن بالاستئناف بغض النظر عن قيمة الطلب.
وفي هذا الصدد، فالملاحظ أن المشروع سيقصي، بين عشية وضحاها، مجموعة من القضايا من الحق في الاستئناف لأن قيمة الطلب لا تتجاوز مبلغ 30.000 درهم، والحال مثلا أن القضايا الاجتماعية وقضايا مدونة الأسرة حاليا تقبل الطعن بالاستئناف بغض النظر عن قيمة الطلب، وهو ما يحرم المتقاضي من درجة من درجات التقاضي ويؤثر على حقوق دفاعه. كما أن المشروع يرفع مبلغ سقف قبول الاستئناف ب 6 أضعاف (باستثناء ما تعلق بالقضايا الاجتماعية وقضايا مدونة الأسرة).
وفي نفس الإطار، يتبين من المادة 375 من قانون المسطرة المدنية أن الطعن بالنقض يمارس ضد المقررات الانتهائية الصادرة عن جميع محاكم المملكة، باستثناء أربعة أنواع من المقررات منها على الخصوص "الأحكام الصادرة في الطلبات التي لا تتجاوز قيمتها 80.000 درهم" التي اعتبرها المشروع غير قابلة للطعن بالنقض، في حين أن الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية الحالي استثنى من الـنـقــض الطلبات التي تقل قيمتها عن 20.000 درهم.
صياغة المادة 375 تطرح إشكالا أول يتعلق بالمقصود من الحكم، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المشرع يستعمل مصطلح الحكم للدلالة على المقررات الصادرة عن محاكم الدرجة الأولى و أن مشروع قانون المسطرة المدنية عرف مصطلح المقرر في المادة 14 بكونه "كل أمر أو حكم أو قرار يصدر عن هيئة قضائية"، مما يطرح التساؤل حول ما إذا كان الاستثناء الذي يقصده المشروع يتعلق فقط بالأحكام الانتهائية الصادرة عن محاكم الدرجة الأولى في الطلبات التي لا تتجاوز قيمتها 80.000 درهم أم يمتد إلى القرارات الاستئنافية الانتهائية الصادرة في هذه الطلبات.
والإشكال الثاني يتمثل في كون المشروع رفع سقف قبول الطعن بالنقض إلى أربعة أضعاف السقف المطبق حاليا، بحيث مر من 20.000 درهم إلى 80.000 درهم.
الملاحظ مما تم توضيحه أعلاه، أن المشروع راجع أسقف قبول الاستئناف والنقض بشكل صاروخي وتم قفل باب الطعون في وجه المتقاضي في مجموعـة من الحالات، بناء على معيار قيمة الطلب، و هو ما يعني أن المتضرر الأول والأخير هو المتقاضي بالنسبة للطلبات منخفضة القيمة.
وبالرجوع إلى التشريع المقارن، يلاحظ أن بعض المشرعين يلجؤون فعلا إلى تحديد بعض الأسقف مثلما ورد في المشروع.
فقد كرس المشرع الفرنسي مثلا الاختصاص الابتدائي و الانتهائي للمحاكم الابتدائية في القضايا التي تقل قيمتها عن 5.000 أورو، إلا أن الطعن بالنقض يبقى مفتوحا أمام المتقاضي عند سوء تطبيق القانون بحيث لا يستثنى أي حكم أو قرار من الطعن بالنقض للاعتبارات التي سيتم توضيحها أدناه. كما أن المشرع الإسباني لم يحدد أي سقف مالي لممارسـة الطعن بالنقض الذي يبقى متاحا في جميع الحالات. ونفس التوجه بالنسبة للنظام القانوني التونسي الذي لا ينص على أي سقف مالي محدد للطعن بالتعقيب (مقابل الطعن بالنقض) ويحق للمتقاضين الطعن بالتعقيب في الأحكام النهائية الصادرة عن محاكم الاستئناف دون اعتبار لقيمة النزاع. أما النظام القانوني لمصري، فقد اشترط أن تزيد قيمة الدعوى عن 100 ألف جنيه (أي ما يعادل 20.000 درهم) لتقديم الطعن بالنقض.
الأكيد أن التسقيف يعتبر موضوعًا حساسًا يحمل مزايا وسلبيات يجب تقييمها بعنايــة في احتــرام تام للمبدأ الدستوري المرتبط بحق المواطن في الولوج للعدالــة.
فالموقف الذي يدافع عن ضرورة التسقيف، يستند إلى أن له مجموعة من المزايــا، منها أنه يخفف الضغط على المحاكم ويساعد في تقصير أمد الفصل في القضايا ومن شأنه أن يعزز الكفاءة القضائية بشكل يجعل المحاكم قادرة على التركيز على القضايا ذات الأهمية الكبرى مما من شأنه تحسين جودة الأحكام، ويقلل من تكاليف التقاضي بالنسبة القضايا ذات القيمة المالية الصغيرة، ويشجع أخيرا اللجوء الى الوسائل البديلة لحل النزاعات مثل الوساطة.
أما الموقف الذي يرفض التسقيف، فيرتكز إلى أنه ينطوي على سلبيات كثيرة من ضمنها، أن ربط إمكانية ممارسـة الطعن بالاستئناف أو بالنقض بقيمة الطلب يعد معيارا غير منطقي لأن محاكم الموضوع بدرجتيها قد تخطئ في تطبيق القانون مما يتعين معه عرض القضية على الدرجة الثانية في الموضوع أو على محكمة النقض التي تظل هي الجهة القضائية المختصة لمراقبـة صحة تطبيق القانون والتي تعمل على توحيده. كما أن حرمان المتقاضي من الحق في الطعن في بعض النزاعات، بناءً على قيمتها المالية، يعد مساسا بمبدأ المساواة خاصة بالنسبة للمتقاضي ذي الدخل المالي المحدود، دون إغفال أن القضايا قليلة القيمة تطرح بدورها إشكالات قانونية معقدة، لأن الدفوع والمناقشة القانونية المثارة أمام المحاكم (كالصفـة والأهلية والإثبات والتقادم والسقوط وغيرها من النقط القانونية) لا يمكن أن تتأثر بأي معيار قيمي ويتعين أن تعرض على المحاكم الأعلى درجة لتصحيح أي خطأ في تطبيق القانون يمكن أن يشوبها.
 
كما يتعين لفت النظر إلى أن التسقيف من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة خطيرة بالنسبة للنظام القانوني، وهي نشوء التضارب القضائي بين عمل محاكم الموضوع في المملكة بالنسبة إلى النقطة القانونية الواحدة، دون أن تتوفر إمكانية تحديد موقف موحد يتعين على الجميع الانقياد له بسبب تعذر ممارسة الحق في الطعن، مما قد ينتج عنه المساس بمبدأي التوقع القانوني والأمن القضائي بالنسبة للمتقاضين.
 
كما أن رفع السقفين إلى مبلغي 30.000 درهم و80.000 درهم، يظل في الواقع غير ملائم للقدرة الشرائية ولا متلائم مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي بالمغرب.
 
وفيما يتعلق بالطعن بالنقض على الخصوص، يتعين التذكير أنه طريق غير عادي من طرق الطعن، لا يمكن ممارسته إلا وفق شروط محددة ولا يمت للوقائع بصلة، ولا يستجاب له ولا أثر له على المقرر المطعون فيه إلا بناء على أسباب معينة تتصل في الغالب بسوء تطبيق القانون من طرف محكمة الموضوع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو على أي أساس تم اختيار الطلبات التي تم إقصاؤها من دائرة اختصاص محكمة النقض؟
 
يجب أن نتذكر دائما أن قضاء النقض ما هو إلا قضاء القانون، ومحكمة النقض محكمة تنظر في عمل محاكم الموضوع وتقيمه، لتؤيده متى وافق القانون، ولتقومه إن هو خالفه. وقضاة الموضوع معرضون للخطأ في تطبيق القانون، سواء أتعلق الأمر بقضاة محاكم الدرجة الأولى أم الثانية، بحيث تبقى لمحكمة النقض الكلمة الفصل، على الصعيد الوطني، في حسن تطبيق القانون وتفسير نصوصه. و هو ما يعني أنه من غير المنطقي استثناء أي نوع من المقررات القضائية من دائرة اختصاص محكم النقض.
 
إن الحرمان من حق ممارسة الطعن بالنقض لا يؤدي فقط إلى تقليص حقوق الدفاع بحرمان المتقاضين من رقابة محكمة النقض على حسن تطبيق محاكم الموضوع للقانون، بل إنه مؤثر في النظام القانوني و من شأنه أن يضرب وحدته، بحيث لا يمكن القول، في ظل النظم القانونية التي تقر استثناءات على اختصاص محكمة النقض في رقابة عمل محاكم الموضوع، إن هناك جهازا يتربع على هرم السلطة القضائية في البلاد مهمته مراقبة حسن تطبيق و تفسير النصوص القانونية، لسبب بسيط و هو أن سلطة هذا الجهاز لا تمتد لتشمل كافة مجالات عمل محاكم الموضوع، مما ينذر بتضارب محتمل في العمل القضائي، منعكس سلبا لا محالة على مختلف وظائف القانون داخل المجتمع.
 
على أنه إذا كانت رؤية المشرع تسير في اتجاه و معاكس و تسعى إلى تكريس التسقيف و تقليص مجال ممارسة طرق الطعن، فالأكيد أن مراجعة أسقف ممارسة الطعن بالاستئناف والطعن بالنقض يحب أن توازن بين الموقفين، بحيث يجب أن توفق بين الإكراهات العملية المرتبطة بسير مرفق القضاء وبالضغط الذي تعرفه المحاكم و بالحاجة إلى تقليص أمد في النزاعات، وبين حق المواطن في الولوج للعدالة بجميع ضماناتها و درجاتها و حقه في عرض نزاعه على محكمة النقض، لأن عدالة النظام القانوني تقتضي أن يظل الحق في التقاضي دون أي تقييد متاحا أمام الجميع، مع ضمان الكفاءة والجودة وإيجاد حلول عادلة للقضايا ذات القيم الصغيرة دون المساس بالحق في الولوج للعدالة.
 
وفي هذا الصدد، يتعين أخذ مجموعـة من العوامل بعين الاعتبار قبل تحديد الأسقف الجديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
 
- الاستفادة من التجارب المقارنة في مجال تحديد الأسقف، مع ضرورة ربطها بالواقع المحلي وبمجموعة من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية الخاصة بالمغرب التي تأخذها الحكومة بعين الاعتبار في مجموعة من المجالات، كالتضخم ومتوسط الدخل الفردي والقدرة الشرائية للمواطن؛
 
-التمييز في التسقيف بطبيعة القضايا ونوعية المتقاضين، مع تخصيص القضايا ذات الطبيعة الشخصية أو المتعلقة بحقوق أشخاص ذاتية بأسقف تقل عن القضايا المهنية أو تلك المتعلقة بحقوق أشخاص اعتبارية؛
 
- مراعاة مبدأ التدرج في تحديد الأسقف المالية بحيث لا يستساغ أن يرتفع سقف ممارسة الاستئناف بستة أضعاف (من 5.000 درهم إلى 30.000 درهم) و لا سقف ممارسة النقض بأربعة أضعاف (من 20.000 درهم إلى 80.000 درهم)، دفعة واحدة، كما أنه لا يعقل أن يصير الملف الذي كان قابلا للطعن بالنقض (مثلا ملف قيمته 29.999 درهم)، لا يعقل أن يصير بين عشية و ضحاها غير قابل حتى للطعن بالاستئناف.
 
- ربط السقف المالي بالتضخم قصد ضمان تناسبه مع القوة الشرائية للمواطنين.
- الاعتماد على متوسط الدخل الفردي لتحديد السقف بما يعكس القدرات المالية للمواطنين.
- تصنيف القضايا حسب طبيعتها، مع وضع سقوف أقـــل للقضايا الشخصية وأعلى للتجارية.
- مراعاة التفاوت الجغرافي بوضع أسقف مختلفة حسب مستويات المعيشة في المناطق الحضرية والقروية.
- الاستفادة من التجارب الدولية في تحديد السقوف وربطها بالواقع المحلي.
- إطلاق برامج دعم قانوني للفئات ذات الدخل المحدود لتخفيف أثر التسقيف.
- ضمان الشفافية والتوعية المجتمعية حول أسباب تحديد السقف وآليات تعديله عبر إشراك المهن القضائيـة والمجتمع المدني في مناقشة تعديلات السقف المالي.
- إجراء تعديلات مرنة ومستمرة تتماشى مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية.
 
لهذه الأسباب، يتعين إعادة النظر في الأسقف المقترحـة من ناحيـة، والإبقاء على الطعن بالنقض مفتوح في جميع الأحوال، من ناحيـة أخرى.
 

كــوثــر جــلال            

                            محاميـة بهيئــة المحامين بالدار البيضاء