الخميس 14 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

العمارتي: الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية (19 يوليوز 2024): قراءة تحليلية من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان (2)

العمارتي: الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية (19 يوليوز 2024): قراءة تحليلية من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان (2) محمد العمارتي
ثانيا - انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان المترتبة عن سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة
لا بأس من التذكير أن القانون الدولي يتضمن نواة من المبادئ العامة التي تفرض احترام حق تقرير المصير والسيادة الإقليمية للدول، والتي تحظر الاستيطان وضم الأراضي بالقوة. غير أن القانون الدولي لحقوق الإنسان – رغم كونه فرعا مهمّا للقانون الدولي العام – لا يتضمن سوى القليل من القواعد التي تحظر على سبيل التخصيص سياسة الاستيطان التي تنهجها الدولة في إقليم خاضع لاحتلالها أو ممارستها لضم أجزاء من هذا الإقليم المحتل، إذا ما استثنينا المبدأ الآمر لاحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها. ومع ذلك، فلا مراء في أن الآثار المباشرة وغير المباشرة لسياسة الاستيطان التي تنهجها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة وضمها لأجزاء منها، تؤدي الى ارتكاب انتهاكات سافرة لعدد من المقتضيات التي تنص عليها اتفاقيات القانون الدولي لحقوق الإنسان. وهذا ما بيّنته المحكمة على نحو مفصل ودقيق في رأيها الاستشاري.
 
1- انعكاسات سياسة الاستيطان والضم
لم تتردّد محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري في الجزم أن إسرائيل قد نفذت سياسة استيطانية طيلة احتلالها للأراضي الفلسطينية، الأمر الذي ذكّرت المحكمة أنه يعتبر خرقا خطيرا للبروتوكول الإضافي الأول (المادة 85 /فقرة 4- أ)
(8 يونيو 1977) لاتفاقيات جنيف الأربع (12 غشت 1949)، فضلا عن كون هذه السياسة تعتبر جريمة حرب وفقا للمادة (85/ الفقرة 5) من البروتوكول المذكور. وتتمثل سياسة الاستيطان التي تنفذها السلطات الإسرائيلية، حسب المحكمة، في تشجيع وتنظيم ونقل وتحويل وترحيل جزء من السكان المدنيين الإسرائيليين الى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي سياسة مخالفة للقانون الدولي (المادة 49/ الفقرة 6 لاتفاقية جنيف الرابعة) كما تعتبر قطعا، جريمة حرب وفقا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (المادة 8 / ف 2 – ب).
 
وعلاوة على ما سبق، لاحظت المحكمة أن سياسة إقامة وانتشار المستوطنات الإسرائيلية وتزايد عددها ، بما يترتب عنها من انتهاكات ثابتة لحقوق الفلسطينيين، كانت موضوعا لتحليلات عدة في تقارير صادرة عن الأجهزة والآليات المختلفة لمنظمة الأمم المتحدة [ على سبيل المثال لا الحصر ، إحداث مجلس حقوق الإنسان لبعثة دولية مستقلة في 2012 ،مكلفة بتقصي الحقائق حول آثار سياسة الاستيطان الإسرائيلي على الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية . نشر الأمين العام للأمم المتحدة والمفوض السامي لحقوق الانسان لتقارير بصورة منتظمة ومحيّنة توثق الوقائع المتعلقة بإقامة المستوطنات الإسرائيلية وتوسيعها. تقارير المقررين الخاصين باعتبارهم إجراءات خاصة للأمم المتحدة، حول الأعمال المتصلة بالاستيطان الإسرائيلي وتبعاته على حقوق الانسان للسكان الفلسطينيين]. وقد تمكنت المحكمة بالاستناد على هذه التقارير من القيام بتوصيف دقيق للطريقة التي تتبعها السلطات الإسرائيلية في تنظيم عمليات الاستيطان، وتحويل السكان المدنيين الإسرائيليين نحو الاستقرار في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبناء على المعطيات والمعلومات الموثقة التي توفرت لدى المحكمة من مختلف المصادر المتقاطعة، استطاعت تحديد وتوصيف مجموعة من الانتهاكات التي يمكننا اختزال أبرزها فيما يلي:
قرارات الاستيلاء على الأراضي ومصادرتها على نطاق واسع لصالح المستوطنات الإسرائيلية
استغلال السلطات الإسرائيلية للموارد الطبيعية (خاصة المياه والمعادن والأراضي الزراعية) للأراضي الفلسطينية المحتلة لصالح السكان الإسرائيليين، بما يلحق الضرر بالسكان الفلسطينيين أو يحرمهم بشكل كلي من هذه الموارد، تمديد التشريعات العسكرية الإسرائيلية وتطبيقها على السكان الفلسطينيين، وتوسيع نطاق تطبيق التشريعات المدنية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لكي تصبح سارية المفعول على المستوطنين الإسرائيليين، الترحيل القسري للسكان الفلسطينيين الذين يعيشون في المنطقة (ج) من الضفة الغربية نتيجة لقرارات الإخلاء القسري وهدم وتدمير المساكن والقيود المفروضة على الإقامة وحرية التنقل،
أعمال العنف التي يمارسها المستوطنون وعناصر الجيش الإسرائيلي ضد السكان الفلسطينيين والتي يفلت مرتكبوها من أي مسائلة أو عقاب من لدن السلطات الإسرائيلية.
 
عنف المستوطنين ضد المدنيين الفلسطينيين وفشل وتغاضي السلطات الإسرائيلية عن الوقاية منه ومنعه ومعاقبة مرتكبيه بشكل فعال، واستخدامها المفرط وغير المتناسب للقوة ضد سلامة المدنيين الفلسطينيين يعتبر انتهاكا مستمرا لالتزاماتها - باعتبارها قوة احتلال –بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
 
الاعتداء على الحق في الحياة المكفول للأشخاص " المحميين" اللذين يعيشون في الأراضي المحتلة، والتي تعتبر خرقا واضحا لأحكام اتفاقية لاهاي (المادة 46) ولاتفاقية جنيف الرابعة (المادة 27) وللعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 (المادتين 6 ف 1 و7).
 
وقد خلصت المحكمة في ضوء توصيفها وتحليلها لمختلف الانتهاكات الناشئة عن السياسة الممنهجة للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وضمها لأجزاء من هذه الأراضي، الى أن هذه السياسات والممارسات تتعارض بشكل بيّن مع القواعد المنظمة للاحتلال المستمدة أساسا من اتفاقيتي لاهاي (1899- 1907) ومن اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، كما تتعارض مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وسيادته على موارده الطبيعية.
 
ويتعين التنبيه في هذا الصدد، أن محكمة العدل الدولية قد ركّزت استدلالها على تحليل الانتهاكات والخروقات المذكورة، اقتناعا منها بأن هذه الانتهاكات كافية للبرهنة على عدم قانونية سياسة الاستيطان الإسرائيلية وتبعاتها من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان. غير أنه غني عن البيان أن السياسات والممارسات الإسرائيلية الناشئة عن الاستيطان وضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، تنتهك أيضا الكثير من الحقوق التي تعترف بها الصكوك الدولية الأخرى لحقوق الانسان. ذلك أن آثار هذه السياسات والممارسات تعتبر يقينا انتهاكات للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفلسطينيين، وهو الأمر الذي سبق للمحكمة أن تناولته بتفصيل في رأيها الاستشاري بشأن الجدار الفاصل. الصادر في سنة 2004.
 
2- مسألة التشريعات والتدابير التمييزية
أثارت الجمعية العامة للأمم المتحدة في سؤالها (أ) الذي وجهته الى محكمة العدل الدولية [مسألة التبعات القانونية لاعتماد إسرائيل وتطبيقها للتشريعات والتدابير التمييزية المتصلة بها].
 
واعتبرت المحكمة أنه قبل الإجابة عن هذا السؤال، سوف يتعين عليها بداية أن تحدد ما إذا كانت التشريعات والتدابير المقصودة في سؤال الجمعية العامة تكتسي طابعا تمييزيا؟ وهذا ما قادها إلى إبداء ملاحظة أولية تتعلق بتعريف مفهوم التمييز ومدلوله في القانون الدولي لحقوق الإنسان.
 
وفي هذا المسعى، استندت المحكمة بالأساس على ميثاق الأمم المتحدة لسنة 1945(المادة 1 فقرة 3) والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 (المادة 2). وذكّرت المحكمة أيضا أن بعض أشكال التمييز تعتبر محظورة بموجب القانون الدولي الإنساني (المادة 27 /ف 3) من اتفاقية جنيف الرابعة، مضيفة ان العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي تنطبق على الحالة المعروضة عليها، تنص على حظر التمييز (المادة 2 /فقرة 1 والمادتين 4 و26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمادة 2 /فقرة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
 
وفي نفس السياق، ذكّرت المحكمة أيضا أن الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري التي اعتمدتها الأمم المتحدة في عام 1965، قد كرّست في مادتها الأولى تعريفا للمقصود بالتمييز العنصري الذي يقوم على أساس أسباب خاصة.
 
واعتمادا على جميع المقتضيات المذكورة استنتجت المحكمة أن مبدأ حظر التمييز يكتسي طابع قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي.
 
وبعد جرد المحكمة للمقتضيات الاتفاقية التي تحظر التمييز وإقرارها بالطابع العرفي الواضح لهذا المبدأ، عمدت إلى تحديد ما إذا كانت التشريعات والتدابير التي تتخذها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية تنطوي على تمييز قائم –تحديدا – على أساس العرق أو الدين أو الانتماء الاثني بين الفلسطينيين وغيرهم من المجموعات السكانية الأخرى، فيما يرجع لتمتعهم بحقوق الإنسان بالمدلول المحدد في المقتضيات الاتفاقية ذات الصلة.
 
وأخذا بالاعتبار أن الاختلاف في المعاملة لا يعتبر دائما وعلى سبيل الإطلاق شكلا من أشكال التمييز، حرصت المحكمة على التحقق ما إذا كان كل اختلاف في المعاملة تجاه الفلسطينيين يتأسس على مبرر مشروع، وما إذا كانت ثمة دواع معقولة وموضوعية تعلّله، لأن الهدف منه يعتبر مشروعا لاتصاله بتحقيق المصلحة العامة.
 
وبناء على التعريف الدولي للتمييز الذي استخلصته المحكمة من المعايير الاتفاقية ذات الصلة، وبتوظيف مجمل عناصره ومعاييره وأشكاله، انتقلت المحكمة الى رصد عدد من التدابير التطبيقية، والى فحص وتحليل آثار وانعكاسات سياسات وممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الحقوق الثابتة للفلسطينيين، وركزت في هذا المنحى وعلى وجه الخصوص على:
أ- سياسة رخص الإقامة بالقدس الشرقية
بدأت المحكمة بالتذكير أن إسرائيل تعتبر القدس الشرقية جزءا من إقليمها الخاضع لسيادتها ولتشريعاتها وقوانينها الوطنية. ولاحظت أن التشريعات الإسرائيلية المتعاقبة تمنح حق الإقامة بالقدس الشرقية دون قيد او شرط للمواطنين الإسرائيليين ولليهود غير الإسرائيليين، وبالقابل يعتبر جميع المقيمين الآخرين بالقدس الشرقية، بما فيهم الفلسطينيون الذين لا يحملون الجنسية الإسرائيلية في حكم الأجانب المقيمين بإسرائيل، مما لا يمنحهم حق الإقامة بالقدس الشرقية الا بالحصول على ترخيص خاص وساري الصلاحية من السلطات الإسرائيلية.
 
واعتبرت المحكمة بعد تحليلها لعدد من القرارات والتدابير والقيود التي تفرضها السلطات الإسرائيلية على إقامة الفلسطينيين بالقدس الشرقية ، ان سياسة إسرائيل المتعلقة برخص الإقامة بالقدس الشرقية – على الأقل بالنسبة لتلك التي يخضع لها الفلسطينيون –تؤدي الى معاملة تمييزية تجاههم ، لكونها تنتهك حقهم في الإقامة والعيش بالقدس الشرقية في تعارض واضح مع المادة 5 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري ( الحق في حرية الحركة والإقامة داخل حدود الدولة)، بالإضافة الى مخالفتها للمادة 12 /فقرة 1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية . ولاحظت المحكمة في هذا الصدد، أنه قد سبق لكل من لجنة القضاء على التمييز العنصري ولجنة حقوق الانسان (لجان المعاهدات) أن اعتبرت السياسة الإسرائيلية المتعلقة برخص الإقامة بالقدس الشرقية مخالفة للالتزامات التي تفرضها على إسرائيل اتفاقية القضاء على التمييز العنصري والعهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
 
وبناء على ما سبق، خلصت المحكمة الى أن المعاملة المختلفة التي يخضع لها الفلسطينيون فيما يتعلق بشرط حصولهم على ترخيص خاص للإقامة بالقدس الشرقية، معاملة غير مبرّرة لأنها لا تحقق هدفا مشروعا يتصل بالمصلحة العامة. وأضافت المحكمة أيضا، ان نظام منح تراخيص الإقامة المطبق في القدس الشرقية يعتبر في ذات الوقت، نتيجة وهدفا لسياسة ضم القدس الشرقية الى إسرائيل الذي سبق ان صرّحت المحكمة بطابعه غير القانوني.
 
وفي ضوء العناصر والملاحظات المذكورة، خلصت المحكمة الى أن سياسة إسرائيل المتعلقة بتراخيص الإقامة بالقدس الشرقية والتي تستهدف الفلسطينيين حصرا، تنطوي على تمييز واضح تجاه هذه الفئة من السكان، ويعتبر بالتالي تمييزا محظورا بموجب المواد 2 / فقرة 2 والمواد 23 و26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فضلا عن كونه محظورا أيضا بمقتضى المواد 2/ فقرة 2 و10 / فقرة 1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
 
ب- القيود المفروضة على حرية تنقل الفلسطينيين
تطرقت المحكمة بشكل مطول الى القيود الصارمة التي تفرضها إسرائيل على حرية تنقل الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وسجلت بهذا الخصوص ان كل الأراضي تقريبا التابعة للمنطقة ( ج) قد خصصتها إسرائيل للمستوطنات أو أعلنتها مناطق عسكرية ،وأخضعت الدخول اليها لترخيص خاص أو جعلتها "محميات طبيعية ". ولاحظت المحكمة أن الوصول الى هذه المناطق والدخول اليها مباح لجميع المستوطنين ولجميع الأشخاص الحاصلين على ترخيص للدخول الى إسرائيل بما فيهم اليهود غير الإسرائيليين، بينما يمنع الفلسطينيون المقيمون في الأراضي المحتلة من الدخول الى هذه المناطق إلا بترخيص خاص.
 
وما استرعى اهتمام المحكمة أيضا أن إسرائيل وفرت بنية تحتية مهمة تقوم على بناء وتجهيز شبكة واسعة من الطرق في المنطقة الموصوفة ب (المنطقة جيم)، تسهل ربط المستوطنات فيما بينها وبإقليم إسرائيل، غير أن هذه الطرق التي بنيت بمحاذاة القرى الفلسطينية لا يحق للفلسطينيين سلكها واستعمالها الا بقيود وشروط متشددة أو أنهم يمنعون كليا من استعمالها. وأحالت المحكمة بشأن أنواع هذه القيود المفروضة على الفلسطينيين الى المعلومات والبيانات المفصلة التي أوردتها تقارير موثقة صادرة في سنوات 2013 و2023 عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية وعن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة. كما استندت المحكمة في نفس الموضوع على المعلومات التي تضمنها تقرير الأمين العام للأمم المتحدة في سنة 2016، الذي استعرض حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، بالإضافة الى ما سبق أن لاحظته المحكمة وضمنته في رأيها الاستشاري لسنة 2004 حول التبعات القانونية لبناء الجدار الفاصل على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفيما يتعلق تحديدا بآثار إقامة هذا الجدار على تقييد حق الفلسطينيين في حرية الحركة والتنقل.
 
واستحضارا للنطاق الذي حددته المحكمة لتحليلها ، أشارت الى أن التنقل بين قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية يخضع لقيود صارمة وتعسفية ، ويؤدي الى حرمان ومنع الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة والضفة الغربية من التوجه والوصول الى أماكن العبادة الموجودة في القدس الشرقية ، مضيفة ان ما توفر لديها من وقائع موثقة و دلائل قاطعة ،يؤكد إخضاع الفلسطينيين لشرط المرور عبر نقط المراقبة والتفتيش الأمني، كما يؤكد ان السلطات الإسرائيلية تقوم بالإغلاق الكامل للمنطقة المؤدية الى القدس الشرقية في أيام إقامة الشعائر الدينية ، وكذا في الأعياد الدينية مما يحرم الفلسطينيين من حق ممارسة شعائرهم الدينية بحرية .
 
وبالاستناد الى مجموع الدلائل التي توفرت لديها، خلصت المحكمة الى أن إسرائيل بفرضها لشروط وقيود صارمة على حق الفلسطينيين في حرية التنقل، فإنها تمارس تمييزا في معاملتها للفلسطينيين فيما يخص حريتهم في الحركة والتنقل. وشدّدت المحكمة أيضا على أن دفع إسرائيل وتحججها بضرورات ضمان الحماية للمستوطنين الإسرائيليين ولمستوطناتها – التي يعتبر وجودها وتوسعها في الأراضي الفلسطينية المحتلة مخالفا للقانون الدولي – لا يجوز بأي حال التذرع بها كسبب يبرر فرض التدابير التي تستهدف الفلسطينيين حصرا وتجعلهم عرضة لمعاملة تمييزية. وأكدت المحكمة أن التدابير التي تفرضها السلطات الإسرائيلية على جميع الفلسطينيين وعلى الأساس الوحيد لهويتهم الفلسطينية، لا تتناسب مع أي هدف مشروع ولا يمكن بالتالي تبريرها بدواع واعتبارات أمنية.
 
وفي نفس الاتجاه الذي ذهبت فيه المحكمة في رأيها الاستشاري لعام 2004 بخصوص تبعات وتداعيات بناء إسرائيل للجدار الفاصل على حق الفلسطينيين في العمل، وفي مستوى معيشي كاف، وفي الصحة والتربية والتعليم، وفقا للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولاتفاقية حقوق الطفل، خلصت الى أن نظام القيود المفروضة على حرية تنقل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة يؤدي الى تعريضهم للتمييز فيما يتعلق بالتمتع بجميع الحقوق المذكورة، بالإضافة الى انتهاك حقهم في عدم التعرض، على نحو تعسفي أو غير قانوني للتدخل في خصوصياتهم وشؤون أسرهم طبقا للمادة 17 من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ولمادته 23 التي تنص على حماية الأسرة وللمادة 10 / فقرة 2 من العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
 
وتأسيسا على جميع العناصر والمرتكزات السابقة، جزمت المحكمة أن سياسات إسرائيل التي تقيّد حرية تنقل الفلسطينيين تمثل تمييزا محظورا بموجب المادة 2/ فقرة 1 والمادة 26 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 2/ فقرة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمادة 2 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
 
ج- هدم ممتلكات الفلسطينيين
أثارت المحكمة في موضع لاحق من رأيها الاستشاري الممارسة الإسرائيلية المتمثلة في هدم الممتلكات الفلسطينية في القدس الشرقية والضفة الغربية. وقد استمدت المعطيات التي بنت عليها تحليلها بخصوص هذه الممارسة الشائعة، من عدد من التقارير التي يصدرها بشكل دوري مكتب الأمم المتحدة المكلف بتنسيق الشؤون الإنسانية. وهكذا تعرض الرأي الاستشاري لنوعين من عمليات الهدم التي تطال ممتلكات الفلسطينيين:
- الهدم العقابي [يخول التشريع الإسرائيلي لقائد قوات الدفاع سلطة إصدار أوامر هدم وتدمير الممتلكات العقارية لمرتكبي أفعال تعتبرها السلطات الإسرائيلية ذات طبيعة إرهابية، وتشمل عمليات الهدم المباني السكنية التي يعيش فيها أو كان يعيش فيها مرتكبو هذه الأفعال أو لا زالت أسرهم تعيش فيها].
 
- الهدم بسبب عدم حيازة رخصة للبناء.
واعتبرت المحكمة ان عمليات هدم وتدمير الممتلكات العقارية للفلسطينيين، سواء تم تنفيذها على سبيل
العقوبة الجنائية أو على سبيل التدابير الإدارية الزجرية بسبب عدم حيازة مالكيها على رخص البناء – علما أن إجراءات طلبات الفلسطينيين للحصول على هذه الرخص طويلة ومعقدة ، ولا توافق عليها السلطات الا نادرا، خلافا لما هو عليه الأمر بالنسبة للمستوطنين الإسرائيليين – تنتهك حق التملك الذي نصت عليه المادة 5/ د / فقرة 5 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري ، كما ان عمليات الهدم هاته ، تنتهك أيضا حق أي شخص في عدم التعرض ، على نحو تعسفي وغير قانوني للتدخل في شؤون أسرته وذلك طبقا للمادة 17 /فقرة 1 و 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
 
وأخذا بالاعتبار مجموع الأسباب المذكورة التي اعتمدتها المحكمة، خلصت الى وجود طائفة واسعة من التشريعات والتدابير التي اعتمدتها إسرائيل بصفتها قوة احتلال، يخضع الفلسطينيون بمقتضاها لمعاملة مختلفة تقوم على الأسباب والمكونات والمعايير التي يحددها القانون الدولي لتعريف التمييز.
وبناء عليه، ترى محكمة العدل الدولية أن نظام القيود العامة التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، مكوّن ومنشئ للتمييز الممنهج، وعلى وجه التحديد بسبب العرق، أو الدين، أو الأصل القومي، ويعتبر بالتالي اعتماد نظام هذه القيود مخالفا للمادة 2 / فقرة 1 وللمادة 26 من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وللمادة 2/ فقرة 2 من العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وللمادة 2 من اتفاقية القضاء على التمييز العنصري.
 
وتجدر الإشارة في هذا الصدد، أن عددا من الدول التي أدلت ببيانات مكتوبة أو شفوية الى المحكمة تتعلق بالسؤال المطروح عليها في طلب الرأي الاستشاري، وذلك عملا بالنظام الأساسي للمحكمة، كانت واضحة في نعتها السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالفصل العنصري أو الأبارتيد، وتكييفها بالتالي كانتهاكات ثابتة للمادة 3 من اتفاقية القضاء على التمييز العنصري.
 
بيد أن المحكمة لاحظت ان السياسات والممارسات التي تنهجها إسرائيل في الضفة الغربية والقدس الشرقية، تؤدي الى الفصل بين الفلسطينيين والمستوطنين الذين تنقلهم إسرائيل الى الأراضي الفلسطينية المحتلة، مضيفة أن هذا الفصل يعتبر قبل كل شيء، فصلا ماديا وجسديا، لأن سياسة الاستيطان التي تطبقها إسرائيل تكرس وتزيد من تفكيك وتجزئ الضفة الغربية والقدس الشرقية، وتهدف الى فرض الحصار على المجموعات السكانية الفلسطينية وتطويقها وعزلها في جيوب منفصلة ومتباعدة عن بعضها.
 
ويكتسي الفصل بين المستوطنين والسكان الفلسطينيين طبيعة قانونية أيضا، بالنظر الى أن إسرائيل مدّدت بشكل جزئي تطبيق وسريان تشريعاتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وأصبح بذلك المستوطنون الإسرائيليون والسكان الفلسطينيون يخضعون لأنظمة قانونية متمايزة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
 
وبالإضافة الى فرض هذا النظام القانوني المزدوج في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إن التشريعات والتدابير التي تطبقها إسرائيل منذ عدة عقود تخضع الفلسطينيين لمعاملة مختلفة عن تلك التي يحظى بها المستوطنون في مجالات عديدة للحياة الشخصية والاجتماعية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
 
ولاحظت المحكمة في الأخير، ان هذه التشريعات والتدابير الإسرائيلية تفرض الفصل الكامل تقريبا بين المستوطنين والفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتمكن من الإبقاء عليه واستمراره، مؤكدة أن هذه التشريعات والتدابير تعتبر لهذا السبب انتهاكا للمادة 3 من اتفاقية القضاء على التمييز العنصري التي تتعهد بمقتضاها الدول الأطراف بمنع وحظر واستئصال الفصل العنصري والأبارتيد.
 
ويتضح بخصوص هذه المسألة أن المحكمة كانت حريصة على الحذر والتحفظ، ولم تذهب في رأيها الاستشاري الى حد التصريح بنعت التشريعات والتدابير الإسرائيلية التمييزية تجاه الفلسطينيين بالأبارتيد ، مكتفية بالقول أن نظام التمييز العنصري القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يمكن اعتباره إما نظاما للفصل العنصري أو للأبارتيد، لكنه في جميع الحالات يتعلق بشكل خطير من التمييز العنصري .
 
3- مسألة الحق في تقرير المصير
أولت محكمة العدل الدولية اهتمامها لهذه المسألة في رأيها الاستشاري من زاوية تبعات السياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومدى تأثيرها على حق الفلسطينيين في تقرير المصير. وبالتالي تطرقت في تحليلها لسياسة المستوطنات التي تنهجها إسرائيل، والتشريعات والتدابير التمييزية بالإضافة لممارسة ضم بعض الأجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة وإلحاقها بإقليم إسرائيل.
 
بدأت المحكمة بالتذكير المفصل بالمرجعيات والمرتكزات الاتفاقية وغير الاتفاقية الدولية العديدة التي يقوم عليها الأساس القانوني الملزم لحق تقرير المصير، كما ذكرت بموقفها القانوني بشأن هذه المسألة الذي عبرت عنه في آرائها الاستشارية السابقة التي اعتبرت فيها هذا الحق من بين المبادئ الأساسية للقانون الدولي. وأكدت في هذا الصدد من جديد اعترافها بكون الحق في تقرير المصير يكتسي طابع القاعدة الملزمة للجميع erga omnes» «وبأن جميع الدول لها مصلحة في احترام وحماية هذا الحق.
ويمكن تركيز جوهر تحليل المحكمة ورأيها بخصوص هذه المسألة، وصلة بالحالة المطلوب فيها رأيها تحديدا في التالي:
إن سياسة المستوطنات والاستمرار في ضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة تخلف تبعات وآثار سلبية عديدة على الوحدة الترابية الفلسطينية [تفكيك وتجزيئ الضفة الغربية، فصل القدس الشرقية، توسع المستوطنات والطرق المخصصة حصرا للمستوطنين، عزل ومحاصرة التجمعات السكانية الفلسطينية، ضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة .....].
 
وبذلك، اعتبرت المحكمة أن هذه الآثار والانعكاسات تشكل انتهاكات للوحدة الترابية الفلسطينية، بينما يعترف القانون الدولي العرفي بأن الحق في الوحدة الترابية يعد نتيجة طبيعية وملازمة للحق في تقرير المصير.
 
إن تبعات السياسة الممنهجة للمستوطنات وممارسة ضم الأراضي، واعتماد وفرض التشريعات والتدابير التمييزية تتمثل في [إجبار الفلسطينيين على النزوح من بعض أجزاء الأراضي المحتلة، الفصل المفروض على السكان الفلسطينيين بين قطاع غزة، والضفة الغربية، والقدس الشرقية] الأمر الذي ينتهك حق الشعب الفلسطيني في الوحدة الترابية، ويتعارض مع مبدأ حماية حق أي شعب من الأعمال والممارسات المؤدية الى تشتيته وتهديد وحدته كشعب.
 
إن استغلال الموارد الطبيعية للأراضي الفلسطينية المحتلة لصالح إسرائيل والمستوطنات الإسرائيلية من شأنه حرمان الشعب الفلسطيني من التمتع بالموارد الطبيعية لأراضيه، مما يتعارض مع حقه في ممارسة السيادة الدائمة على هذه الموارد الذي يعتبر مبدأ للقانون الدولي العرفي وعنصرا مكوّنا للحق في تقرير المصير.
 
إن سياسات وممارسات إسرائيل تعمق تبعية الضفة الغربية والقدس الشرقية، ولاسيما قطاع غزة لإسرائيل وتفاقم اعتمادها عليها في توفير المواد والخدمات الأساسية، الأمر الذي يحرم الشعب الفلسطيني من القدرة على تطوير اقتصاده وتحسين مستوى معيشته.
 
وبعد رصدها لمجموع الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتحليلها في ضوء مبادئ وقواعد القانون الدولي ذات الصلة [الوحدة الترابية، وحدة السكان، حرية اختيار المركز السياسي، السيادة على الموارد الطبيعية، السعي الحر لتحقيق النماء الاقتصادي والاجتماعي ...]، استنتجت المحكمة أن الطابع الممتد في الزمن وغير القانوني لسياسات وممارسات إسرائيل يعمق خرقها لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، فضلا عن كون استمرار هذه السياسات والممارسات يهدد حق الشعب الفلسطيني في التمتع بهذا الحق وممارسته في المستقبل .
 
ولهذه الأسباب والاعتبارات جميعها، اعترفت محكمة العدل الدولية أن السياسات والممارسات غير القانونية لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تعتبر تنصلا واضحا من الالتزامات الاتفاقية المفروضة عليها، وانتهاكا لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير باعتباره قاعدة آمرة للقانون الدولي.
 
محمد العمارتي / أكاديمي- باحث في القانون الدولي لحقوق الإنسان
 
يتبع