يُطلق أنصار الرئيس سعيّد وَسم “قيس سعيّد لست وحدك”، على مواقع الميديا الاجتماعية، ليشُدّوا من أزره ويُثبتوا له أنّ له أنصارًا حتّى وإن انفضّ الجميع من حوله، بما فيهم زملائه السابقين في كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية، بعد أن شرعَ في تثبيت أُسس حُكمه الفردي، بشكل يُنذر بعُزلة النّظام عن تربته القانونية التي استمدّ مشروعيته منها وتغذّى منها لسنوات. وتتأكّد هذه العُزلة بعد البيانات المتلاحقة التي أصدرتها كلّ من الجمعية التونسية للقانون الدستوري، التي كان سعيّد نائب رئيسها لمدّة تربو على 20 سنة، وبيان أساتذة القانون والعلوم السياسية، إضافة إلى بيان جمعية القضاة التونسيين.
كلّ هذه البيانات تندد بلاقانونية قرارات هيئة الانتخابات، ومن ورائها خيارات نظام الرئيس-الأستاذ. حيث رفضت هيئة الانتخابات تطبيق قرارات المحكمة الإدارية بحجّة عدم توصّلها بنسخة منها، في الوقت الذي يتحدّث فيه القانون الانتخابي عن ضرورة تنفيذ قرارات المحكمة حتّى لو كانت بشهادة منطوقة تقتصر على الحُكم فقط. ويأتي هذا التعنّت رغم أنّ رأس السلطة التنفيذية ورئيس الهيئة هُمَا أساسًا من أهل القانون وأولَى من غيرهما باحترام التراتبيّة القانونيّة والامتثال لقرارات المحكمة الإدارية غير القابلة للطّعن. إذ أنّ رئيس هيئة الانتخابات هو قاضِ عدليّ ورئيس الدولة هو أستاذ مساعد في القانون الدستوري.
المختصّون في القانون ضد سلوك الهيئة تجسّدت العُزلة القانونية في البيانات الصّادرة عن عدد من الأساتذة المختصّين في القانون الدستوري، التي تُجمع على ضرورة تطبيق القرارات الصادرة عن الجلسة العامّة للمحكمة الإدارية. ففي يوم ثاني شتنبر 2024، المتزامن مع الندوة الصحفية التي أعلنت فيها هيئة الانتخابات عن القائمة النهائية لمُترشّحي الانتخابات الرئاسية، أصدرت الجمعية التونسية للقانون الدستوري التي كان قيس سعيّد نائب رئيسها منذ 1995، بيانًا دعت فيه إلى الالتزام بمقتضيات دولة القانون وذلك بالامتثال للقواعد الدستورية والقانونية، على اعتبار أنّ الأحكام الصادرة عن الجلسة العامة للمحكمة الإدارية غير قابلة لأي وجه من أوجه الطعن وواجبة التنفيذ ولا يجوز لأي جهة أخرى، مهما كانت، تقييمها أو التشكيك فيها أو الامتناع عن تطبيقها أو ترجيحها.
فيما صدر بيان آخر يوم 5 شتنبر عن أساتذة القانون والعلوم السياسية، وهم في معظمهم إمّا زملاء سابقين للرئيس أو من طلبته، أدان من خلاله أكثر من ثمانين أستاذًا وأستاذةً تجاوزات هيئة الانتخابات ودعوا إلى تنفيذ أحكام الإدارية، إيمانا منهم برسالتهم العلمية السامية ودورهم ومسؤوليتهم في ترسيخ قيم الجمهورية ودولة القانون وفق ما جاء في بيانهم. واعتبر الموقعون على البيان أنّ قرار الهيئة يَجعَل المسار الانتخابي في خطر باعتباره يمس من مصداقيته ونزاهته وسلامته، ويُؤدّي لامحالة إلى التشكيك في نتائج الانتخابات في مرحلة لاحقة.
في حين علّقت جمعية القضاة التونسيين في بيان نشرته على صفحتها الرسمية في 3 شتنبر 2024 بأنّ “هيئة الانتخابات ألغت المؤسسة القضائيّة”، مؤكّدة أنّ “ولاية الهيئة على المسار الانتخابي لا يضعها فوق سلطة القضاء ورقابة المحاكم وخاصة رقابة المحكمة الإدارية طبق القانون الانتخابي الذي لا يحتاج شرحا ولا تأويلا في هذا الخصوص”، ونبّهت إلى “خطورة القرار الذي اتخذته الهيئة بعدم الإذعان لقرارات المحكمة الإدارية لما يمثّله من نسف لجوهر دولة القانون ولما يعنيه من إلغاء غير مسبوق لدور القضاء في النزاع الانتخابي”.
انفراط العقد بين الرئيس وزملائه السابقين عند انتخابه رئيسًا، تقدّمت الجمعية التونسية للقانون الدستوري بتهنئة لنائب رئيسها الأسبق قيس سعيّد، وعلّقت عليه آمالها “باحترام الدستور” و”الانتصار لقيم الجمهورية” و”الذّود عن الحريّات العامّة والفرديّة”. إذ كان لفوز قيس سعيّد بُعدًا رمزيًّا في مواصلة بناء مؤسسات الانتقال الديمقراطي وتكريس الحقوق والحريّات نظرًا لخلفيّته القانونيّة ولتقلّده مسؤوليات في عدد من الجمعيات والهياكل القانونية وفق ما جاء في سيرته الذاتية، وهو ما قد يُؤهّله ليكون حريصًا أكثر من غيره على الإصلاح واحترام علويّة القانون. لكنّه ارتأى عكس ذلك وشرعَ في تثبيت منظومة حكمه في 25 يوليوز 2021 الّتي ألغَى بها البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء وعطّل بها عمل الهيئات العمومية المستقلّة، واستحدَثَ منظومة مؤسساتية لم تُثبت جدواها.
وفي 26 يوليوز 2021، أصدرت الجمعية التونسية للقانون الدستوري بيانًا وقَفَ في منتصف الطريق، بين المُساندة المُحتشمة للقرارات الصادرة عن رئيس الدولة، وبين الحرص على احترام القانون في ظلّ ذلك الظرف الاستثنائي. إذ قالت في بدايته إنّ البلاد شهدت تحرّكات شعبية “جابت كامل تراب الجمهورية للمطالبة بحلّ مجلس نواب الشعب ورحيل الحكومة”، مُذكِّرةً بأنّ “لرئيس الجمهورية سلطة تقديريّة في تقييم الظروف التي تحتّم اللجوء إلى حالة الاستثناء”. وعبّرت في المقابل عن “تخوّفِها من مخاطر تركيز جميع السلطات بيد رئيس الجمهورية”، الّذي دَعَته إلى الالتزام بمقوّمات النظام الجمهوري وإلى عدم الانحراف بما يتيحه له الفصل 80 من دستور 2014 من سلطات استثنائية لتغيير الدستور والنّظام السياسي.
ثمّ بدأ الحزام القانوني الّذي حاولَ قيس سعيّد أن يُحصّن به نفسَه يرتخي شيئًا فشيْئًا، حيث سعى إلى استقدام عُمداء كليّات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية لعضوية اللجنة الاستشارية القانونية، وهي إحدى الهياكل المُكوِّنة “للهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” التي جاء بها المرسوم عدد 30 لسنة 2022، والمتعهّدة “بإعداد مشروع دستور لجمهورية جديدة”. لكنّ العُمداء رفضوا المشاركة في هذه اللجنة في بيان صدر عنهم بتاريخ 24 ماي 2022، التزامًا منهم بالحريات الأكاديمية المنصوص عليها بدستور 2014، وحِرصَهم من ناحية أخرى على “النأي بالمسؤولين الجامعيين عن اتخاذ مواقف سياسية تخرجهم عن تحفظهم وتجرّهم لاتخاذ مواقف من البرامج السياسية”، ليُعاضِدهم أكثر من سبعين أستاذة وأستاذ من المختصّين في القانون رفضا لمقتضيات المرسوم عدد 30 والأسلوب المُسقَط الذي اعتمد في تعيين أعضاء لجانه “بغاية إضفاء شرعية وهمية ومضللة” على مشروع سياسي، وتمسّكوا “برفض الزجّ بالجامعيين والجامعيات” في ذلك المنزلق ودعوا عمداء كليات الحقوق إلى “عدم قبول الانخراط” في هذا المسار و“توحيد كلمتهم-ن لرفض مثل هذا التحايّل على المؤسسات العلمية والزجّ بالجامعة في المشاريع السياسية”.
فيما أصدرت الجمعية التونسية للقانون الدستوري في 30 ماي 2022، بالتزامن مع انطلاق الاستشارة الوطنية حول إعداد الدستور بيانًا عبّرت فيه عن “عميق انشغالها بشأن إصرار رئيس الجمهورية على فرض سياسة الأمر الواقع”، مُذكّرةً بأنّه منذ صدور الأمر عدد 117 لسنة 2021 -الّذي يُمثّل “دستورًا صغيرًا” أتاح به قيس سعيّد لنفسه هامشًا سياسيًّا وقانونيًّا واسعًا في غياب المجلس التشريعي- “تمّ الخروج تمامًا عن مقتضيات الفصل 80 من دستور 2014 من خلال فتحِه الباب لتغييرات سياسيّة ثبُت فيما بعد أنّها تغييرات جوهرية”.
هذه المُعارضة القانونية الواسعة لخيار النظام السياسي الحالي في استهداف مؤسسات إنفاذ القانون -وفي مقدمتها القضاء- وعدم احترام القوانين والتلاعب بها، تأتي معظمها من حقل الأكاديميا الذي ترعرَع فيه الرئيس سعيد، وكَسب من خلال صورته الرمزية وشرعية داخل النخب والمجتمع طيلة سنوات الانتقال الديمقراطي. ولكن الرئيس يُجَابِه هذا الواقع بالإنكار، وقد خاطب زملاءه في الكثير من المحطات باستعلاء سلطوي -خاصة الذين عارضوه- داعيا إياهم إلى “إعادة قراءة دروسهم” في كليات القانون والحقوق.