الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: قمة المواطنة والوطنية وتقدير المسؤولية

أحمد الحطاب: قمة المواطنة والوطنية وتقدير المسؤولية أحمد الحطاب
هذه المقالة سبق أن نشرتُها على صفحتي. واليوم، أُعيد نشرَها، لأني أدخلتُ عليها بعض التَّعديلات ولأنها تبيِّن، بوضوحٍ ما بعده وضوحٌ، الفرقَ الشاسعَ بين مسئولين سياسيين يابانيين يقدِّرون المسؤولية ويشعرون بثِقَلها ومسؤولين مغاربة لا يُعطون أية قيمة لا للسياسة ولا للمسؤولية ولا للمواطنة ولا للمواطنات والمواطنين.
 
يتعلَّق الأمر بفتاة تسكن في إحدى القرى اليابانية وتُتابع دراستَها في إحدى المدن. يحضر، كلَّ صباح، قطارٌ صغيرٌ لنقل الفتاة من سُكنِاها الذي يوجد بقريةٍ وبالقرب من السكة الحديدية، إلى المدينة التي تُتابع بها دراستَها.
 
في أي خانةٍ، يمكننا تصنيف هذا العمل النبيل؟ هل هو عملٌ خيري أو إنساني أو اجتماعي…؟ ليس هذا العمل عملاً خيريا! بل إنه عملٌ إنساني واجتماعي، يُبيِّن بوضوح أن الإنسان الياباني، إذا وصل إلى السلطة، عن طريق الانتخابات، يُقدِّر السياسة والمواطنة و المسئولية، وفوق هذا وذاك،  يعطي قيمةً للعنصر البشري ولكرامة عيشه.
 
اليابان التي زرتُها طيلةَ أسبوع، في إطار زيارة رسمية، لاحظتُ، بأم عيني، أن الإنسانَ، كإنسان، له قيمة عالية، وفي نفس الوقت، إنه إنسانٌ يحترم نفسَه ويحترم الغير. واحترام الغير ليس محصورا بين اليابانيين. بل إنه يزداد قوَّة إزاء الأجانب.
ولهذا، عندما تكون القيم الإنسانية هي المحرِّك الأساسي للمجتمع، كما هو الشأن في اليابان، فإن السياسةَ تخضع لهذه القيم لتُصبحَ أداةً أو وسيلةً لإسعاد الناس وتمكينهم مما يستحقونه من حقوق.
 
وهذا هو ما أثار استغرابي لما اطَّلعتُ على الفيديو. فكيف لمسئولين سياسيين أن يولوا كلَّ هذا الاهتمام لفتاة واحدة في قرية معزولة من قرى اليابان، ويُعبئوا قطارا صغيرا من أجل أن لا يضيعَ حقُّها في الدراسة؟
 
إن دلَّ هذا الاهتمامُ على شيءٍ، إنما يدل على أن الإنسان الياباني، كان ذكرا أو أنثى، صغيرا أو كبيرا لا تضيع حقوقُه. بل إن المسئولين اليابانيين يرون في صِغار السن، نساءَ ورجالَ الغد الذين سيمسكون بزمام الأمور، مستقبلا، ويساهمون في تقدُّم البلاد وازدهارها، سائرين على نهج ما خلَّفه السلفُ من قيمٍ إنسانية سامية.
 
أما عندنا، في هذا البلد السعيد، ملايين البشر، رجالاً، وبالأخص، النساء، لا قيمة لهم ومتروكون لحالهم يتصارعون مع الزمان، طيلةَ حياتهم اليومية، إن لم نقل طيلةَ حياتهم. بل إن الأغلبية الساحقة يعانون من الأمية والجهل ويوجدون خارج الدورة الاقتصادية المهيكلة. وهذا يعني أن جلَّهم لا يساهم في خلق الثروة، هذا إن لم يزدادوا فقراً وتهميشاً يوماً بعد يوم!
أما الأطفال، ذهبوا إلى المدرسة أو لم يذهبوا، فلا أحدَ ينتبه! ولا مسئول يُحرِّك ساكِناً! علما أن مرحلةَ التعليم الأساسي، أي من التعليم الابتدائي إلى نهاية التعليم الإعدادي، قانونياً، إحبارية أو إلزامية.
 
بل إن كثيرا من الأطفال يغادرون الدراسةَ بسبب طول المسافة بين منازلهم والمدرسة، وخصوصا، أولئك الذين يقطنون بالمناطق الجبلية حيث الطقس يكون باردا خلال فصل الشتاء.
 
أيها القرَّاء المحترمون، دلُّوني على حزبٍ سياسي واحد مغربي جعل من الحق في التَّمدرس ومن الحق في النقل المدرسي، ومن الهدر المدرسي قضايا وطنية، واقت ح لها حلولاً تخدم البلادَ والعبادَ. بالطبع، هذا النوعُ من الأحزاب السياسية لا يوجد حاليا،  ربما لن يوجدَ مستقبلا! لماذا؟
 
لأنه، كما يقول المثل المغربي: "مَا حاسْ بالمْمْزْودْ غِيرْ المْضْروب بِهْ"، أي الناس الذين لم يُجرِّبوا مِحنَ الحياة، لن يُحِسُّوا بألمِها. فما دام القياديون السياسيون لا يعانون لا من المدرسة ولا من نقل بناتِهم وأبنائهم ولا من الهدر المدرسي، فلا تهمُّهم آلامُ الغير!
 
يا أيها السياسيون الذين يسيّرون الشأنين العام والمحلِّي، وأعني بذلك المُنْتَخَبِين إن على مستوى البرلمان أو الحكومة أو على المستوى الجهوي أو المحلِّي، أدعوكم لتقليد المسئولين اليابانيين، على الأقل، فيما يخص التَّمدرس والنقل المدرسي. لعلكم تستيقظون من أنانيتكم وتتخلَّصون منها، وتستوعبون كيف يُعْطي اليابان للمسئولية قيمتَها وكيف تُحْتَرَمُ كرامةُ المواطن وكيف يُعْتَنَى بالجيل الصاعد وكيف يتمتع الناس بحقوقهم.
 
بالمقابل، نرى عندنا المُنْتَخَبِين البرلمانيين يقضون وقتهم في الخُطب الجوفاء والفارغة من المحتوى الهادف، ولا تصلح إلا لقتل الوقت. وحتى أن مَن يتابع نقاشاتِكم البرلمانية، لا يستطيع أن يجد لها خيطاً ناظماً أو منفعةً أو حتى ضررا ماعدا ذلك الذي يتمثّل في ضياع الوقت وأموال الدولة. في غالب الأحيان، إنهم لا يمثلون إلا أنفسهم. و حتى لو تكلموا وتحدثوا ونطقوا وصرخوا وصاحوا، فلن يغيروا شيئا ما دامت الأحزاب التي يمثلونها لا تهتم بشؤون المواطنين و لا تحظى بثقة هؤلاء المواطنين.
 
تخصيص قطار صغير بأكمله لتلميذة واحدة من أجل متابعة دراستها وتخصيص راتب للأستاذ، أحيانا، أعلى من راتب الوزير الأول والاعتناء بصحة التلاميذ داخل الأقسام، هذه أعمال لا يمكن أن تحدث إلا في بلدان راقية ومُتَحَضِّرَة.
 
والحضارة يبنيها ويستفيد منها العنصرُ البشري الذي تُصَانُ كرامتُه و يُحسّ أن له انتماء وطنيا ويجري في دمه حب الصالح العام والوطن. أين نحن من الحضارة، وخصوصا، عندما يُسْنَدُ تدبيرُ أمورِ وشؤونِ المواطنين إلى الأمِّيين وأشباه الأمِّيين. فمتى كانت الحضارةُ تأتي من الجهلٍ والأميةٍ؟