إذا كان لابد لكل بلد ما يتميز به ، فيما حباه الله من النعم والمكرومات،ومن الفضائل والخيرات، فلا شك أن المتبصر سيرى أن الدروس الحسنية مظهر من مظاهر الفخر والإجلال، ومنقبة من مناقب المغرب عبر التاريخ والأجيال، وخصلة من خصال سلاطينه في العناية بالعلم والعلماء في كل المناسبات والأحوال، بل هي نعمة من نِعَم المتعال، تستوجب الشكر بلساني الحال والمقال، لقوله سبحانه: (وأما بنعمة ربك فحدث)، يقول د: عبد الكبير العلوي المدغري - رحمه الله - حين حديثه عن تاريخها: "فكانت بحق مظهرا من مظاهر الحركة العلمية، والنهضة الفكرية الزاهرة، التي عرفها وشهدها عهد الدولة العلوية المنيفة...، كما تبرز مدى التقدير الكبير والعناية الفائقة، التي كان يوليها بصفة خاصة ملوك هذه الدولة للعلم والعلماء، وللعلوم الإسلامية وثقافتها الأصيلة".
الدروس الحسنية تقليد سلطاني ومنبر عرفاني:
لعله وإن كانت هناك بوادر للدروس العلمية فيما قبل الدولة العلوية، فإن سلاطين هذه الأخيرة، قد أبدوا عنايتهم، وأولوا رغبتهم بالحركة العملية، في بلادهم منذ ولاهم الله مقاليد حكمها، والأخذ بزمامها، فعمدوا إلى إحياء منابعها الأصلية، المتمثلة في فتح جامع بن يوسف بمراكش، وجامع القرويين بفاس، وروافدهما في وجه الراغبين، ورعَوا فيها العلماء قصد الدرس والتمكين، بل فتح السلاطين قصورهم للعلماء للمحاورة والمناقشة في أمور الدنيا والدين، وخاصة خلال شهر رمضان الأبرك، لتخصيص حصص لمدارسة الحديث النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وذلك مند تأسيسها على يد المولى محمد بن الشريف، والمولى الرشيد، فالمولى إسماعيل، ومرورا بالمولى محمد بن عبد الله، والمولى سليمان، وصولاً إلى المولى محمد الخامس، والمولى الحسن الثاني «رحم الله الجميع»، فالمولى محمد السادس «نصر الله»، فكانت هذه الدروس تلقى بفضاءات تلك القصور، تقليدا سلطانيا ومنبرا عرفانيا، يعكس ارتباط السلاطين بعلمائهم، والعناية والاهتمام بمعارفهم وعلومهم، في أعظم المناسبات من أوقاتهم.
الدروس الحسنية بين التقليد والتجديد:
لاشك أن المولى الحسن الثاني «طيب الله تراه»، قد سار على نهج والده وأسلافه، وأولى رعايته لهذه السنة الحميدة أمام أجياله، بل تفرد بها بين أمثاله ، ليجعلها لبلده المغرب خصيصة طوال أزمانه، تضرب في أعماق التاريخ بجدورها، وتمتد إلى العالم الاسلامي بأغصانها وفروعها، فلا يكاد يجد الناظر لها مثيلا، ولا يرى لها شبيها.
وقد كان من جلالته «رحمه الله» أن ناولها: "رعاية كبيرة، وعناية فائقة، واهتماما خاصا، وَفَّرَ لها تنظيما جديدا، وفتح لها آفاقا واسعة، لتتمكن من أداء رسالتها الإسلامية، والقيام بأمانتها الدينية، ومهمتها الاجتماعية والحضارية، وتُواكِبَ العصر بما يقتضيه من اجتهادات" .
فكان من تلكم العناية وذلكم التنظيم، ما يتجلى من تناسق الأشكال والألوان، والعناصر والمظاهر، مما يجعلها في تميز فريد. يقول أحد الضيوف المشاركين فيها مخاطبا جلالته،:"وللحق وللتاريخ يسجل ضيوفكم العلماء، تميز الدروس الحسنية الفريدة، فقد تميزت فعلا بزمانها الفاضل «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان»، وتميزت بمكانها قصركم العامر المحروس «بعين الله»، وتميزت بمستوى الإشراف والرعاية، الإشراف الملكي الجدي والمباشر، وتميزت بهدفها وهو نشر علوم الكتاب والسنة بمنأى عن كل تزايد أو غلو أوتلوين، وتميزت بمستوى العطاء والحضور، وتميزت بشمول التغطية الإعلامية مرئية ومسموعة، وتميزت أخيرا بكتابها السنوي الذي يقدمها للناس في حلة قشيبة باللغات: العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية لتتميم الفائدة".
بل صارت الدروس الحسنية في عهد جلالة الملك الحسن الثاني «طيب الله ثراه»، وفي عهد وارث سره جلالة الملك محمد السادس «نصره الله» مؤتمرا علميا سنويا، يجعل من بلاد المغرب قِبلة عالمية، يحج إليه جهابذة وأقطاب الفكر الإسلامي، علماء ومفكرون وأدباء وشعراء، وكذا علماء المملكة الشريفة، ورؤساء المجالس العلمية، الجهوية والمحلية، قصد حضور حلقاتها الموسعة، والمنفتحة على العصر ومداركه، بل عرفت قفزة نوعية في عهد جلالة أمير المؤمنين محمد السادس - حفظه الله - ألا وهي: حضور المرأة العالمة ومشاركتها الفعالة في تلك الدروس والمحاضرات، التي تجمع بين الماضي التليد، والحاضر المشرق، لترسم رسالة وصفية للعالم أجمع، تنبئ عن الخصوصية المغربية، المتشبتة بقيمها الفكرية، ومكانتها التاريخية، وصورتها الحضارية، المنبنية على الوسطية، والمعلنة للاعتدال في ظل ثوابته الدينية والوطنية، المتمثلة في معتقده الأشعري، ومذهبه المالكي، وسلوكه السني وإمارة المؤمنين الحامية للملة والدين.
الدروس الحسنية بين السياق والأبعاد:
من خلال السياق التاريخي والعلمي الذي ثم تناوله، وبعد الأصالة والرسوخ، والانفتاح والطموح، نصل إلى الأبعاد والقيم الإضافية التي ترمي بظلالها على المتلقي، وهو يشاهد ويتابع هذه الدروس عن كثب، فيكتشف الأبعاد المثلى، وهي:
- النمط الحضاري لهذه الدروس، تقول الأستاذة البلغيتي في شأنها وآثارها،: "تعتبر علامة مضيئة على درب حضارتنا وثقافتنا، الحافل بالمفاخر والأمجاد،.. تقوم على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، في خط متواز دون إفراط ولاتفريط، التزاما بمبدإ التوسط وأمة الوسط".
- اعتبارها مؤسسة فكرية، كما قال أحد مشاركيها وهو يخاطب جلالته - طيب الله ثراه: "إن الدروس الحسنية اليوم، أشبه بجامعة مفتوحة، يُقبَل عليها بلهف، ويقطف يانِعَ ثمارها القاصي والداني، والخاص والعام، من أبناء شعبكم الوفي، وأمتكم الإسلامية، وغيرهم في مختلف الأصقاع والبقاع".
- الدور التربوي المتجلي فيما يشاهده المتلقي من دروس العلم والمعرفة، المتنوعة للمعارف والأساليب، والمناهج الهادفة والبانية لثقافة المسلم في خضم الثقافات العالمية ،واعتبار مادتها وحمولتها مرجعاً من مراجع البحث العلمي والأكاديمي داخل المملكة وخارجها.
- الجانب الروحي الكامن في حِلَق الذكر ومكانتها في الإسلام ،لاعتبار شرف الزمان والمكان والإنسان، ومدارسة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، استغلالا لهذا الشهر المبارك وهو موسم القرآن، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذكان جبريل عليه السلام: "يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن".
د .عبد الرزاق فاضل/ باحث في الدراسات الإسلامية