من أغرب وأعجب ما نسمعه في حياتنا اليومية، هو حضور الاعتبارات الدينية، في أحاديثنا المتداولة، واستعمالُ، في نفس الأحاديث، عبارات كثيرة لها علاقة بذكر الله، وكذلك، لها علاقة بالدين من قبِيل : "إن.شاء الله"، "إلا بْقَينا حيِّين"، "مكتوب"، "ما تمشي غِيرْ فينْ ما مشَّاك الله"، "اتَّقا الله"، "الله كْبَر مني وكْبَر منك"، "لا حول ولا قوة إلا بالله"، "الله يْجِيبْ الشتا" "الله سمعنا خْبارْ الخير"، "إنا لله وإنا إليه راجعون... واللائحة طويلة.
السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هنا، هو التالي : "هل وجود ذكر الله والاعتبارات الدينية، في الأحاديث المتداولة اليومية، نابعٌ من قناعة دينية راسخة أم هو مجرَّد كلام اعتاد الناسُ على قوله إلى أن أصبح كلاما نمطيا langage stéréotypé أو ثقافة نمطية culture stéréotypée ينتقلان من جيلٍ لآخر؟".
بالطبع، من الصَّعب إعطاءُ جوابٍ مقنعٍ عن هذا السؤال. لماذا؟ لأنه لا يمكن الإطِّلاعُ على ما يُضمِرُه الناسُ في سريراتهم.
لكن ما يدعو للاستغراب والدهشة، هو أنه، عندما يتم الانتقال من الكلام المتداول أو الأحاديث المتداولة إلى مجال المعاملات، بشتى أشكالها، يختفي ذكرُ الله وتختفي هذه الاعتبارات الدينية وتكاد تختفي القيمُ الدينية، إلا مَن رحم ربِّي. فما هي إذن المعاملات؟
معاملات هي جمعُ معاملة. وأصلها من فعل "عامل". والناسُ، في المجتمعات، يتعاملون بعضُهم مع البعض الآخر. والمجتمعات الراقية هي التي تولي اهتماما للمعاملات، من خلال التَّشريع أو من خلال سنِّ القوانين التي تُنظِّم العلاقات المعاملاتية بين الناس. والمعاملات يمكن أن تشملَ البيع والشراء والتجارة والمبادلات التجارية وكل ما له علاقة بتداول المال. كما يمكن أن تشملَ كل ما له علاقة بالتَّساكن والتَّعايش داخلَ المجتمعات. وكما أن المعاملات التجارية والمالية لها قوانينٌ تنظِّمها، فمعاملات التَّعايش لها، هي الأخرى، قوانينٌ تنظمها.
إنه فعلا أمرٌ غريب ومُحيِّر أن تكون الاعتبارات الدينية حاضرةً في الأحاديث المتداولة وغائبة في المعاملات! إنه، كذلك، أمرٌ يحتِّم علينا طرحَ أسئلة أخرى لا تقلُّ حيرةً وغرابةً عن السؤال الأول : "1.هل نعتبِر غيابَ ذكرِ الله وغيابَ الاعتبارات الدينية في المعاملات تفاوتاً بين ما يقوله الناسُ، في أحاديثهم المتداولة وبين ما يقومون به من أفعال؟". أم 2."هل هناك شيءٌ يدفع الناسَ لتعَمُّدِ التَّفاوتَ بين القول والفعل؟"
جوابا على السؤال الأول، أي : "هل نعتبِر غيابَ ذكرِ الله والاعتبارات الدينية في المعاملات تفاوتاً بين ما يقوله الناسُ، في أحاديثهم المتداولة وبين ما يقومون به من أفعال؟". فإذا كان الأمر هكذا، فهذا التَّفاوتُ، في الحقيقة، عبارة عن نفاق، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (آل عمران، 167). والنفاق واحد من أوجه الفساد الذي نخر وينخُر المجتمعات.
وجوابا على السؤال الثاني، أي : "هل هناك شيءٌ أو أشياء يدفع/تدفع الناسَ لتعَمُّدِ التَّفاوتَ بين القول والفعل؟"، فالمنطق يُحتِّم علينا أن نبحثَ عن هذا الشيء/عن هذه الأشياء. بمعنى أن هناك أسباباً تحول دون وجود الاعتبارات الدينية في المعاملات.
فإذا كانت المعاملات ذات طابع اجتماعي، فالمفروض هو أن تكون هذه المعاملات مبنيةً على التبادل والنفع الذي يستفيد منه الأفرادُ والجماعات. ثم يجب أن لا ننسى أن الإنسانَ ابنُ بيئته، أي ابن مجتمعه. بمعنى أن هذا الإنسانَ يتأثَّر بقيم وثقافة هذا المجتمعِ، وفي نفس الوقت، يُؤثِّر على هذا الأخير.
فإذا كان المجتمع صالحا، فبدون أدنى شكٍّ أن هذا المجتمعَ سيُنتِج أفرادا صالحين. والأفراد الصالحون هم الأفراد الذين يتَّصفون بالاستقامة والنزاهة والعدل والإنصاف والحق… ولا يظلمون أحدا ولا يسرقون ولا يبخسون أشياءَ الناس ولا يعتدون ولا يستكبرون ولا يتجبَّرون ولا…
غير أن المجتمع، عادةً، يكون فيه خليطٌ من الناس الصالحين وغير الصَّالحين. واستمرار بقاء المجتمعات مبني على الصراع القائم بين هاتين الفئتين، أي صراعٌ بين الحق والباطل وبين الطيِّب والخبيث وبين الخير والشر… مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : :…وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة، 251).
في هذه الآية الكريمة، الناس هم المجتمعات والدَّّفع (الصراع) يحدث بين أفرادِ وجماعاتِ المجتمعات. وإذا تغلَّبت الفئةُ المائلة للباطل والخبيث والشر…، فهذا هو فساد الأرض أو فساد المجتمعات التي تستقر بمختلف بقاع الأرض.
ولهذا، فالمجتمعات القابلة للبقاء، هي تلك التي تجد توازنا بين الفئتين، أي تُحدِث توازنا يميل نحو الحق والطيِّب والخير… كيف ذلك؟
هذا التَّوازن لن يكونَ ممكنا إلا إذا عمَّ العدلُ والإنصاف وانتشرت المساواةُ بين الناس، بين الرجل والمرأة، بين الغني والفقير، بين ذي الجاه والمتواضع، بين القوي والضعيف…
لكن التجربةَ بيَّنت وتُبيِّن وستُبيِّن أن الاختلافَ بين الناس هو الذي كان ويكون وسيكون السبب في الدفع (الصراع) بين الناس، إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. بل الاختلاف هو سنَّة من سُنَن الله في أرضه، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن… (النحل، 93) أو مصداقا لقوله، جل جلالُه : "لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (هود، 118).
فما دام الاختلافُ سنةً من سنن الله في خلقه، فلا غرابة أن يتساكن، في المجتمعات، الباطل إلى جانب الحق والخبيث إلى جانب الطيب والشر إلى جانب الخير والفساد إلى جانب الإصلاح والظلم إلى جانب العدل…
وهنا، يأتي السؤال الذي له علاقة بموضوع أو بعنوان هذه المقالة : "فهل هناك أشياءٌ تدفع الناسَ، في المجتمعات، إلى تغييب ذكرِ الله والاعتبارات الدينية في المعاملات الدنيوية كالبيع والشراء وما هو متبادلٌ من قضايا اجتماعية واقتصادية؟".
جوابا على هذا السؤال، هناك شيئان اثنان لا ثالثَ لهما يدفعان الناسَ إلى تغييب ذكر الله والاعتبارات الدينية في المعاملات، ألا وهما : الأنانية égoïsme وحب الماديات inclination vers le matérialisme.
الأنانية أصبحت عاملا من عوامل المجتمعات التي تحول دون خدمة الصالح العام. أما حبُّ الماديات، فقد أصبح مقترنا بربح المال، بسرعة، ولو بطرق غير مشروعة. والسياسة، عوضَ أن تلعبَ الدورَ المترتِّبَ عن معناها النبيل والداعي إلى خدمة الصالح العام، فإنها أصبحت أقوى وأهم وسيلة تحث على الأنانية وحب الماديات.
وحينما أتحدث عن غياب ذكر الله والاعتبارات الدينية في المعاملات، فلا أقصد أن يكونَ ذكر الله والاعتبارات الدينية مجسَّدا/مجسَّدةً أسود على أبيض. بل أقصد أن تكونَ حاضرةً على مستوى النوايا، كما هو الشأن لأحاديثنا المتداولة اليومية، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (المنافقون، 9). كما لا يجب أن يُفهمَ من كلامي أن السياسة يجب أن تختلطَ بالدين. لا ليس هذا هو قصدي. الدين والتَّشبُّث به أمر تدور أطوارُه بين الخالق والمخلوق. ما أقصده هو إذا كان الدينُ ينهى عن المنكر والفساد، فهل هناك مانعٌ يحول دون إحضاره على مستوى النوايا لتتمَّ المعاملات بما يرضاه الله والناس.
والمقصود من الآية السالفة الذكر، هو، إذا انشغل بالُ الناسِ بأمور الدنيأ، وهذا شيءٌ مشروع، يجب أن لا ينسوا أو أن لا يتناسوا ذكرَ الله وإحضارَ الاعتبارات الدينية على مستوى النوايا، في المعاملات الدنيوية، لأن النوايا، إذا كانت صالحةً، ينتج عنها عملٌ صالحٌ. والهدف الأول والأخير من حضور الاعتبارات الدينية على مستوى النوايا، هو منع الفساد والإفساد أن يتسرَّبا إلى المعاملات كيفما كان نوعها. أليس هذا الهدف هو الذي، من المفروض، أن يسعى إليه كل مواطن يريد الخيرَ للبلاد والعباد؟
لكن، وبكل أسفٍ، ما نلاحظه، في الحياة اليومية، عندما يتعلَّق الأمر بالمعاملات، لا أحدَ ينتبه أو يعود إلى ما أراده ويريده الله، سبحانه وتعالى، من خيرٍ لعباده، حينما يقول : "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (الأنفال، 28). أليست هذه الآية تنبيهٌ من الله لما يريده، سبحانه وتعالى، من خيرٍ لعباده.
ما أختم به هذه المقالة، هو أن حضورَ ذكر الله والاعتبارات الدينية في الأحاديث المتداولة، عند كثيرٍ من الناس، ليست إلا عادة أو كلاما نمطيا أو ثقافة نمطية تعوَّد الناس على إحضارها في الأقوال أو المحادثات اليومية.