الاثنين 29 ديسمبر 2025
فن وثقافة

سعيد أوعطّار: لغة تشكيلية تتجاوز المرئي بمعرض متعدد الأصوات… ووحيد الروح

سعيد أوعطّار: لغة تشكيلية تتجاوز المرئي بمعرض متعدد الأصوات… ووحيد الروح من معرض سعيد أوعطّار بباريس
في قلب باريس، حيث تتقاطع الذاكرة بالتجريب وتتنفّس الفنون من جدران حيّ الماريه، يطلّ معرض الفنان المغربي سعيد أوعطّار كحدث إستثنائي يتجاوز مفهوم العرض التشكيلي ليغدو تجربة حسّية وروحية كاملة. هنا لا تعلّق اللوحات لتشاهد فحسب، بل لتصغي وتحسّ وتدخل في حوار عميق مع المتلقي، كأن الفن يستعيد وظيفته الأولى: كشف ما هو خفيّ في الإنسان والعالم.
 
في هذا المعرض، لا تقف لوحات سعيد أوعطّار صامتة على الجدران؛ إنها كائنات نابضة، تنظر إليك بعيون خفيّة، وتستنطقك قبل أن تنطق..لوحات لا تعرف السكون. إنّها مسكونة بطاقة داخلية جامحة، تنبض بالألوان وتتفجّر بالحركة..ألوان ليست ألوانا بالمعنى التقليدي، بل طاقات مشتعلة، كأنها شظايا حلم قديم أو بقايا أسطورة أندلسية ضائعة.. الأحمر فيها ليس صبغة، بل نبض وجرح مفتوحان على الذاكرة، والأزرق ليس فضاء بصريا ولا سماء، بل عمق روحيّ يشبه الصمت، أما الأسود فليس عتمة، بل حكمة متراكمة عبر الزمن.. تتسلّل خطوطه كأثر قديم أو تعويذة بصرية تستحضر الأسطورة. اما شخصيات الفنان، المتحرّرة من الواقعية ومن قيود التشريح، تبدو كأنها خارجة من حلم جماعي، وجوه مشظّاة لكنها شديدة الحضور، تحمل ملامح الإنسان في قلقه وفرحه وإنكساره ونشوته..  
 
سعيد أوعطّار، الفنان والباحث الجامعي، يشتغل على اللوحة كما يشتغل المتصوّف على حاله الروحية: إنخطاف، تجلّ، ثم عودة محمّلة بالأسرار. شخصياته متكسّرة الملامح، متحرّرة من التشريح الواقعي، لكنها شديدة الصدق، كأنها خارجة للتوّ من حلمٍ جماعيّ أو من ذاكرة كونية لا تعرف الجغرافيا.
 
إن ما يميّز أعمال أوعطّار حقا هو هذه اللغة التعبيرية الخاصة التي لا تنتمي إلى مدرسة بقدر ما تؤسّس لمقام فنيٌ مستقل. ضربات الفرشاة عنده تشبه إيقاعات الطبول الإفريقية، تارة عنيفة، وتارة لينة، لكنها دائما صادقة. الخطوط تتصارع ثم تتعانق، الأشكال تتفكك لتعاد صياغتها، واللوحة تتحوّل إلى مسرح أسطوريّ، حيث الجسد والروح في حوار أبدي. إنه فنّ خارج الزمن، لا يستعير راهنيته من الموضة، بل من قدرته على ملامسة الإنسان في جوهره. ولهذا بدت لوحاته وكأنها مرآة للزائر: كلّ يرى فيها ما يخفيه في داخله.
 
إلى جانب أعمال سعيد أوعطّار، يضمّ المعرض تجارب فنية عالمية لافتة: خزفيات فيليب كانال التي تحتفي بالمادة، وصور غاو وينشلو التي تحوّل العدسة إلى أداة تأمل، وأعمال يوكيمي ساساكي التي تنطق بالهدوء الياباني العميق. غير أنّ الحضور الطاغي للوحات أوعطّار جعلها القلب النابض للمعرض، المحور الذي تدور حوله باقي الأصوات. وقد زادت الأمسيات الموسيقية والغنائية والفكرية  من الجاز إلى الغناء، ومن الفلسفة إلى الأداء المسرحي من سحر هذا الحدث، فبدت Rare Gallery وكأنها معبد فنيّ، حيث تمتزج الموسيقى باللون، والفكر بالحدس، والاحتفال بالتأمل.
 
أسطورة تشكيلية في موسم الأضواء، في زمن الأعياد، وبين أضواء نهاية السنة، جاء هذا المعرض ليضيف إلى باريس بهجة من نوع آخر: بهجة الاكتشاف...إنه إحتفال بالفن كقوة خلاص، وباللوحة كمساحة للحرية المطلقة. وليس غريبا أن يحظى هذا المعرض بإقبال كبير وإهتمام لافت، لأن ما يقدّمه سعيد أوعطّار ليس مجرد أعمال فنية، بل تجربة وجودية، رحلة في الجمال المتوحّش، وفي الأسطورة الكامنة داخل الإنسان. إنه معرض يغادره الزائر وهو محمّل بالألوان، كما لو أنه خرج من حلم طويل… حلم مغربيّ الروح، كونيّ الأفق، وأسَطوريّ نبرة لا تنسى.