الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: إسرائيل تصول وتجول

أحمد الحطاب: إسرائيل تصول وتجول أحمد الحطاب
عندما نقول : فلانٌ "يصول ويجول"، المقصود هو أن هذا الفلان يفعل ما يريد غير مبالي لا بالقانون ولا بردود الأفعال ولا بما تفرضه المروءةُ والإنسانيةُ من حُسن الخُلقٍ ومن تساكن وتعايش. وبعبارة أخرى، "صال فلانٌ وجال"، تعني أن الفلان لا رادِعَ له، أي يتصرَّف بسلطة مطلقة. وعندما أقول "إسرائيل تصول وتجول"، المعنى المقصود هو أن إسرائيل بلدٌ فاسق ونذل État voyou لا يُعير أي تقدير للنفس البشرية، وخصوصا، إذا كانت عربية أو مسلمة.
بعد هذا التَّوضيح، أقول وأُعيد وأُكرِّر : إن كان هناك بلدٌ فاسقٌ، همجيٌّ، سافِلٌ، ماجِنٌ، لاأخلاقي، لاإنساني، متعجرف، متغطرس، مغرور، فِرعَوني، شِرِّير، خبيث، متشيطن، متمرِّد، مُنحل، لئيم، طالِح، حقود، خِسِّيس، نذل، منحط، ناقم، طاغِية…، فهو إسرائيل.
وإن كان هناك بلدٌ لا يحترم أي شيءٍ، فهو إسرائيل. هذه الأخيرة لا تحترم لا القانونَ ولا الأعرافَ ولا المواثيق الدولية. كل القيم تدوسها بأقدامها غير آبِهة، ولو بملِّيغرامٍ milligramme واحد من الإنسانية. تتحدَّى العالمَ بأسره. تتحدَّى الأممَ المتحدة، تتحدَّى مجلس الأمن. بل تتحدَّى عقلاء وحكماء العالم وتتحدَّى حتى عقلاء وحكماء بني جلدتها. 
إسرائيل تعتبر نفسَها فوق كل ما هو فوق، أي تُموقع نفسَها فوق جميع حكومات العالم! وخصوصا عندما يحكمها اليمين المتطرِّف بزعامة بنيامين نتنياهو. بل حتى الأحزابُ الأقل تطرُّفا أو أحزاب الوسط، إن كانوا أقل تشدُّدا، فهم متشبٍّثون باحتلالهم لأرض فلسطين. ولذلك ومن أجل ترسيخ هذا الاحتلال داخلَ فلسطين وفي الضمير العالمي، كل الوسائل مباحة وحتى تلك التي تؤدِّي إلى إبادة الشعب الفسطييني. وهو ما يحدث حاليا في غزة.
قد يقول قائلٌ إن إسرائيل تتصرَّف هكذا لأنها تتمتَّع بدعمٍ لا مشروطٍ من طرَف الولايات المتَّحدة التي، عن طريق حق النقض (الفيتو)، بإمكانها إسقاطُ أي قرار يضرُّ مصلحتَها ومصلحةَ إسرائيل. 
هذا صحيحٌ ومؤكَّد! لكن ما لا يجب إغفالُه هو أن هذا الدَّعمَ له خطٌّ أحمر سوف لن تسمحَ الولايات المتَّحدة بأن تتخطَّاه إسرائيل. نعم، الولايات المتَّحدة تواجه الرأيَ العام الأمريكي الذي، بمُجمله، يقف مع فلسطين. ثم يجب أن لا ننسى أن الولايات المتحدة على أبواب الانتخابات الرئاسية، وكل حزب (الديمقراطيون من جهة والجمهوريون من جهة أخرى) يريد الحصولَ على أكبر عدد من الأصوات، وبالتالي، سيأخذ بعين الاعتبار التَّوجُّه السائد للرأي العام الأمريكي. وقد بدأ، فعلا، الرئيس الديمقراطي الحالي بالسير في هذا الاتجاه بممارسة ضغطٍ على إسرائيل ليقبلَ حكامُها فكرةَ الدولتين. بل إن الولايات المتحدة تواجه، كذلك، الرأيَ العام العالمي الذي، هو الآخر بمجمله، يقف إلى جانب فلسطين.
لكن، دعونا نُحلٍّل بعُمق التَّصرّف الهمجي والوحشي الذي تنهجه إسرائيل في غزة!
 مما لا شكَّ فيه أن إسرائيل تعتمد في همجيتُِها و وحشيتُِها في غزة على الدَّعم اللامشروط للولايات المتحدة الأمريكية وعلى حقها في النقض (الفيتو)، وخصوصا، أنها، أي إسرائيل، تتوفَّر على لوبيات قوية داخلَ الكنغريس الأمريكي congrès américain (البرلمان) الذي يضمُّ مجلسَ الشيوخ sénat ومجلسَ النواب chambre des représentants. في كل غرفة من غُرف البرلمان الأمريكي، يوجد لوبي دعمٍ يهودي وغير يهودي قوي ماليا واقتصاديا. هذا سببٌ من أسباب همجية إسرائيل في غزة، لكن…
لكن هناك أسبابٌ أخرى ناتِجة عن اختلالٍ في الشخصية النفسية الإسرائيلية. وهي، في أغلبها واهية، أي غير عقلانية، بمعنى لا يقبلها عقلٌ متَّزن و سَوِي. 
أولها أن الجيش الإسرائيلي اشتهر بأنه من أقوى الجيوش في العالم، بحكم توفُّره على أحدث أسلحة الدمار وعلى رأسها التَّرسانة النووية. والجيش القوي له شعارٌ واحِد : الانتصار ولا شيءَ غير الانتصار. لكن، على إسرائيل أن تتذكَّرَ أن الجيش الألماني، بقيادة هتلر Hitler، كان، في حينه، أقوى جيشٍ في العالم. لكنه انهزم في الحرب العالمية الثانية! وحيش الولايات المتحدة انهزم في الفيتنام Vietnam. وعلى إسرائيل أن تتذكَّرَ كذلك أن جيشَها القوي لم يحقِّق، إلى حدِّ الآن، ولو انتصارا واحدا على المقاومة الفلسطينية!
السبب الثاني هو أن حكَّامَ إسرائيل يعرفون، حقَّ المعرفة، أن وجودَهم على أرض فلسطين وفي قلب الوطن العربي، هو احتلالٌ مفروضٌ على هذين الأخيرين، وفي نفس الوقت، مرفوضٌ رفضاً قطعيا ليس فقط من طرف الفلسطينيين والعرب ولكن كذلك مرفوض من طرف الرأي العام العالمي، خصوصا بعد الهجوم الهمجي على غزة. وكل المفاوضات، من كامب ديفيد camp David وأوسلو Oslo و مدريد Madrid وغيرها، مرورا بالاتفاقيات مع مصر والأردن، باءت بالفشل بينما الرفضُ الفلسطيني، من خلال المقاومة، لم يتراجع ولو بخطوة واحدة! وأول مَن أفشل هذه المفاوضات هم حكَّام إسرائيل. أمام كل هذه المحاولات، لم يبق لإسرائيل إلا فرضَ وجودها، فوق أرض فلسطين وفي قلب الوطن العربي، بقوة جيشها العظيم. لكنها، إلى يومنا هذا، لم تستطع فرضَ هذا الوجود رغم ما اقترفته من جرائم وإبادة وقتلٍ ودمارٍ… حكَّامُ إسرائيل واعون تمامَ الوعي بهذا الوضع. لكنهم يتمادون في تعنُّتِهم لأنهم لا يزالوا يعتقدون بأنه بإمكانهم فرضُ وجودهم بقوة جيشهم الذي، إلى حدٍّ الآن، لم ينجح ولن ينجحَ في هذه المهمة.
السبب الثالث يتمثَّل في ما يُسمِّيه اليهود "الأرض الموعودة" أو "أرض الميعاد" la terre promise أو "أرض إسرائيل" التي وعد بها الله اليهودَ والتي تمتد من نهر الفرات إلى نهر النيل، من خلال ما جاء في التوراة، ومن خلال النبي إبراهيم وذريته (إسحاق ثم يعقوب). غير أن هذا الوعدَ كان مقرونا بإيمانهم بالله وتوحيده، الشيء الذي زاغوا عنه منذ القِدم، وخصوصا، أثناءَ نبوَّة موسى عليه السلام. ثم يجب أن لا ننسى أن التوراة والإنجيل، ككلامٍ ووحيٍ إلاهيين أنزلهما سبحانه وتعالى على موسى وعيسى عليهما السلام، تَعَرَّضا للتَّحريف من طرَف الأحبار والرهبان، مصداقا لقوله عز وجل : "مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ… (النساء، 46).
والسبب الذي يُؤرِّق مضجعَ الحكام الإسرائليين، هو أن هؤلاء الحكَّام يعرفون، حقَّ المعرفة، أن المواطنين الإسرائيليين لا يمكن أن يعيشوا في أمنٍ وأمانٍ، داخلَ حدود إسرائيل، ما دامت المقاومة الفلسطينية قائمة. فهم يعيشون دائما في جوٍّ من الرُّعب والخوف. وما حدث لهم يوم 7 أكتوبر الأخير دليلٌ على ذلك. و ما يخشاه الحكام الإسرائيليون هو أن تحدثَ هجرةٌ جماعيةٌ، لكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس، أي من إسرائيل نحو بلدانٍ أخرى، علما أن جلَّ الاسرائليين يتوفَّرون على جوازين، جوازٌ إسرائيلي وجواز البلدان التي كانوا يُقيمون بها قبل رجوعهم إلى إسرائيل.