سألني أحد أصدقائي القدامى تعليقاً على إحدى مقالاتي التي ناقشتُ فيها متاعب المنظومة التعليمية قائلاً: أتدري ياصديقي ما السبب في هذا الوضع الذي تفاقم ليهدد الموسم الدراسي برمته وينذر بسنة بيضاء؟
قلت له مجيباً بسؤال على سؤال: كيف؟
ردّ قائلا: حضرتُ لقاءً أطّره مدير أكاديمية الدار البيضاء سطات، وضّح فيه مختلِفَ جوانبِ الإصلاح الذي تشهده المنظومة حالياً، فتأكد لي بأن المغرب اختار الطريق الصحيح مقارنةً بباقي القطاعات، ولكن ياصديقي، (أضاف مستطرداً): أتعلم لماذا لن تنجح هذه الإصلاحات في قطاع التعليم؟
قلت له لماذا وكيف؟
ففاجأني بالقول: إن أكثر من 30 في المائة ممن تم توظيفهم كأساتذة خلال السنوات الأخيرة لا ينتمون للقطاع التربوي بأيّ صورةٍ من الصُّوَر، وأنّ هؤلاء من الطبيعي والمنطقي أن ينتابهم الشعور بالفشل... وأنهم ولهذا السبب بالذات، اختاروا المنحى الذي سارت إليه الأمور في هذه الآونة الحرجة!!!
الحال أنني أختلف مع صديقي في تعميمه حكمه على نحو ثلث أعضاء الأسرة التربوية، ولكن اختلافي معه ليس شديداً، وبالتالي فكلامه فيه حد أدنى من الصواب، حتى لا أقول إنه صائب في معظمه!!
أعرف أن كلامي هذا سيغضب أعداداً هائلة من أطر الإدارة التربوية من المدرّسين وباقي الفئات... ولكن الواقع يُبِين عن حقائق كثيرة وواضحة في هذا المنحى، ولا أفشي سراً إذا قلتُ إن الكثير من هذه الحقائق يتجلى بين الحين والآخر في كل عملية اختبار، بغرض التقييم، تخضع له فئات مختلفة من الأسرة التربوية!!!
ماذا حدث فوق أديم الخريطة التربوية طوال العقود الماضية، وخاصة في الثلاثة الأخيرة؟
لقد تناوب على المقعد الحكومي المكلف بالتربية الوطنية مجموعة من الوزراء المتحزّبين، دونما حاجة للتذكير بأسماء أحزاب بعينها، لأنها في الهمّ سواء، وبغض النظر عن الوصفات الإصلاحية المتلاحقة، والتي كانت تدعو في كل تجربة إلى العودةِ لنقطة الصفر، وإلى تجاهُل غير مبرَّر للتجربة الأسبق، بدلا من جعل التجارب المتوالية مبنيةً على بعضها ومتماسكة... أقول بغض النظر عن هذه السَّوْءَة، اجتهدَ كثيرٌ من القيّمين المتعاقبين على تدبير شؤون هذا القطاع في الإتيان إليه كالعادة بموظفين جدد من أفلاك أحزابهم، وكالعادة أيضاً من بين قوائم أقاربهم ومعارفهم، في إطار تساهل مبالغ فيه على مستوى الالتزام الصارم بشروط التوظيف ومعاييره، الشيء الذي ينتج عنه، كما قال صديقي، نوع من الحشو الزائد في الجسد التعليمي، ضامّاً إليه آلافاً من الموظفين التربويين، الذين لا صلة لهم من قريب أو بعيد بقواعد التربية وضوابطها البيداغوجية بالغة الخصوصية والتخصص!!!
والنتيجة؟ وجود آلاف من أفراد الأسرة التربوية لا وعي لديهم بآلياتٍ كالإضراب التعليمي، الذي لا يشبهه أي إضراب آخر، والذي ينبغي أن يظل مجرد وسيلة للاحتجاج، ولإسماع أصوات ومطالب المضربين، وليس أن يتحول إلى مِعْوَلٍ للهدمِ يُصيبُ فلذات أكبادنا في مَقتَل!!!
والنتيجة أيضاً؟ أن جزءاً كبيرا من الأساتذة المضربين لم يقف لحظةً ليتفكر ويتدبّر في ما معنى أن نحكم على أطفالنا بوَأْدِ سنةٍ من أعمارهم، وفتح حفرة سحيقة في مسارهم الدراسي من شأنها أن تقلب مستقبل الكثيرين منهم رأساً على عقب، فضلاً عما يسببه ذلك من الغبن و"الحكرة" والإحباط للآباء والأسر، التي ترى بأم أعينها مَن أوكلت إليهم مسؤولية تربية وتنشئة فلذات أكبادها يُضربون، ويَضربون بالتزامهم الأخلاقي والقانوني والمشروع عرض الحائط، لمجرد التعبير عن رفضهم نظاماً أساسياً لهم كامل الحق في مناقشته، وحتى رفضه بالكامل، ولكن موازاةً مع إيلائهم كامل الأولوية والاعتبار لمستقبل المتمدرسين، الذين لا ناقةَ لهم ولا جملَ فيما ينشأ اليوم أو غداً من الخلافات والنزاعات بين أساتذتهم ومعلّميهم من جهة، والإدارة التعليمية المركزية أو الجهوية أو المحلية من جهة ثانية!!!
ثم نأتي إلى الطرف المدبّر والموجّه لدفة هذا الإضراب، الذي فقد الآن مشروعيته بتجاوُزه المظاريف الزمنية المعقولة، التي يُفترَض أن يلتزم المضربون بعدم تخطيها لأن ذلك سينجم عنه ضرر أثقل وزناً وأشد خطورة وإيلاما مما قد ينتج عن نظام أساسي تتوفر وسائل وفيرة ومشروعة ممكنة ومتاحة في كل وقت وحين لفرض مراجعته وتعديله أو تغييره، ولتكريس مشاركة وازنة في هذه العملية...
المهم، والأهم، اللذان ينبغي بالوجوب أن لا نُخِل بهما إدارةً وسلطةً وأساتذةً مُضربين، هما:
1. الحفاظ على الرسالة التربوية بعيدا عن مُزايدات يبدو أنها بدأت نقابيةً ثم أصبحت سياسيةً بكل المعايير.
2. حماية السنة المدرسية من الهدر والضياع، وياله من ضياع بالغ أقصى درجات الخطورة عندما يأتي على أيدي المربّين أنفسهم، مكرسين بذلك صدقية المثل الشائع: "حاميها حراميها"، ما دام المربّي المسؤول عن تنشئة الطفل هو بلحمه وشحمه العامل، الآن، على كسر رقبة الطفل وهدر سنة بتَمامِها وكمالِها من عمره!!!
نعم، لقد تتبّعتُ شخصيا، بحكم مسؤولياتي الوظيفية والمهنية، كل ما دار في الساحة، وما لا يزال يدور فيها من التدافع بين الأساتذة والوزارة الوصية، وما يقع من تدبيرٍ وتوجيهٍ ولَيٍّ للأذرع من لدن نقابات وتنسيقيات تتنافس فيما بينها لكسر رقاب التلاميذ وأسرهم أكثر من تَدافُعِها واهتمامها بتعديل بنود معينة من مشروع نظام أساسي يعلم الجميع أنه ليس قرآناً، وأن كل الأبواب تظل مُشْرَعةً للدفع إلى تعديله، ولو أدى الأمر إلى التقاضي بشأنه، بل وإلى الدفع لدى المحكمة الدستورية بعدم دستوريته!!!
المهم والأهم، كما قلتُ، هو مستقبل أطفال المغرب، أمّا واقع الأسرة التربوية فمعالجته متاحة بوسائل وآليات مشروعة تعزّ على الحصر، وليس الإضراب إلا واحدة من تلك الآليات، ولكنه يفقد مشروعيته سياسيا ومدنيا وأخلاقيا عندما يتخطى حدوده متعدّياً بذلك على حدود النشء الصاعد، التي أراها شخصيا وبكل تواضع من حدود الله!!!
لم أشأ أن أناقش البنود التي يطالب المضربون بتعديلها أو تغييرها أو حذفها، ولا أن أناقش الخلط والارتباك الذي أنتجه غياب التنسيق بين نقابات تقبل بما ترفضه التنسيقيات، وتنسيقيات كل همّها أن تثبت عدم أهلية النقابات للقيام بدورها الدستوري مقترحةً نفسها كقوى اقتراحية بديلة... فهذه المضوعات تحتاج لوقفة أخرى، ولنقاشٍ من نوع مختلف... ولكنني تناولتُ هذا الموضوع من حيث كونُه تهديداً بالغ الخطورة يستهين بمستقبل أبنائنا لمجرد مناقشة موضوعٍ كلُّ الفرصِ تظلّ متاحةً لوضعه على طاولة الأخذ والرد بين أطرافه الرئيسيين، أقصد الإدارة والأسرة التربوية، بعيدا عن المُزايدين الذين لا تخلو منهم أيُّ ساحة من ساحات الشأن العام...
تُرى ما الذي يخبّئُه غَدُ هذا الملف العويص؟!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي