لم تكن مجرد رحلة بل كانت اكتشافاً لمعدن نفيس ونادر مدفون داخل الدكتور محمد شهبي. "الولعُ" بالتراب تلك حكاية أخرى، لطبيب عيون يفاجئك كلما اقتربت منه، تفاجئك إنسانيته المفرطة.

 - دكتور شهبي ماذا تخفي عنّي بعد؟

تلتهم عجلات السيارة الطريق السيّار، تترك الريح خلفها والأشجار ومصحة كاليفورنيا صوب مصحّة إيكولوجية، المكان السرّي الذي يختبئ فيه الدكتور محمد شهبي، يخلع عباءة الجرّاح ويلبس ثوب المزارع. يذهلني الدكتور الذي أعرفُه، لكنّي لا أعرفه "مزارعاً" يفهم لغة التراب ويحدّث الأرض!!

إنّه سريع التكيّف بفطرته وذكائه وإصراره وبساطته. يلبس أيّ شخصية، متعدّد المواهب، يحبّ الحياة، لذا تتمسّك به الحياة وتبادله الحبّ نفسه، حتى في تجربة مرضه القاسية لو كان رجلٌ آخر في مكانه ربما كان اليوم تحت سرير التّراب. لكنّ الحياة تغازل الدكتور شهبي، تراب شيشاوة يلبسه رداء.. يمشي على الأرض كأنّه يمشي فوق الهواء، لهذا يعود جسده من هناك وروحه تظلّ بشيشاوة في حقول الزيتون واللّيمون.

تعرفت على الشخصية التي يخفيها محمد شهبي عن الآخرين العاشق للتراب، لكن هذه الرحلة الأخيرة كانت مختلفة، استعاد عنفوانه، ربما هنا في هذه الأرض استعاد الأمل وامتصّ ترياق الحياة. يكفي أنّه قضى في هذا المكان تحت أشجار الليمون والزيتون آخر وأجمل لحظاته مع أمّه قبل أن يخطفها فيروس كوفيد الخبيث.

طعنة "كوفيد" لم تكن الوحيدة التي تدمي قلب محمد شهبي، طعنة أخرى أصابته في مقتل بسمّ الخيانة.

- من "الخائن" هذه المرة؟

رجل قصير القامة، لكنّه "طويل اليد واللّسان". يعرفه "الشيطان"، بل هو "الشيطان" نفسه. لن تحتاجوا إلى تخيّل صورة شيطان لرسم وجهه.. "الشيطان" يوجد في "شيشاوة" خلف القضبان.

قصير القامة لكنّه "طويل النّاب". لكنّ "ناب" الدكتور شهبي كان أشدّ شكيمة من "ناب الذّئب" الذي يمتص دماء ضحاياه. محمد شهبي الذي خرج منتصراً على فيروس قاتل، لا يمكن أن يروّض "شيطان" شيشاوة ويخلع أنيابه الزًرقاء.

وأنا أجسّ نبض التراب بمزارع الدكتور محمد شهبي يحدثني التراب عن "الخيانة" وعن "مصّاص الدّماء".. مقطوع من شجرة الرحمة.. كأنّ الله يعاقبه ولا يريد أن يكون لـ "الشّيطان" نسل وشجرة أنساب تتلوّث بالعار.

"الشّيطان" مازال مغلولاً بالأصفاد بشيشاوة.. فلا ترجموه، هو بنفسه يرجم نفسه، يجلد ذاته كمازوخي، يلعن وجهه هذا "البو….راس" الذي تشتمّ رائحة خيانته قبل أن تصل إلى أوّل بيت بشيشاوة.

قصير القامة، لكنّه ظلّه طويل بالخيانات الشيطانية. من سوء حظه خياناته ارتطمت بصدر يصدّ الخيانات.. صدر محمد شهبي درع ضد الطعنات الغادرة التي لا تُحصى. لكنّها طعنات تزيد ظهره صلابة وجلده متانة.

قضيتَ يومين مع الدكتور محمد شهبي، فاكتشفتَ رجلاً آخر يزرع الحبّ في أيّ مكان تطأه قدماه.. يناغي الخيول، طبيبُ عيون عاشق للحياة، باحثٌ عن الوفاء في سماء تظلّلها الخيانات.