الجمعة 29 مارس 2024
اقتصاد

الخبير الزكدوني: الأمطار لن تمكن من إنقاذ جميع مزروعات الحبوب الخريفية المتبقية

الخبير الزكدوني: الأمطار لن تمكن من إنقاذ جميع مزروعات الحبوب الخريفية المتبقية العربي الزكدوني الخبير في الاقتصاد الفلاحي والتنمية القروية
استضافت حلقة الاثنين 4 أبريل 2022 لبرنامج "ضيف التحرير" على قناة ميدي 1 التلفزية، العربي الزكدوني، الخبير في الاقتصاد الفلاحي والتنمية القروية. الحوار الذي أدارته الإعلامية سمية ادغوغي، كان فرصة لمناقشة مجموعة من القضايا التي كانت تمس القطاع الفلاحي برؤية العربي الزكدوني، الخبير في الاقتصاد الفلاحي والتنمية القروية، والأستاذ الباحث السابق بقسم العلوم الإنسانية بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، حيث أكد في هذا الحوار أن الأمطار الغزيرة لشهر مارس الأخير أحيت بض الأمل لإحياء الموسم ألفلاحي الحالي ولو نسبيا، ونبه إلى أن فلاحتنا تستوجب وقفة تأملية في الاختبارات المتبعة، داعيا إلى دمج الجفاف كعامل هيكلي. وألح الزكدوني على وجوب إعادة النظر في النموذج الفلاحي ببلادنا. "أنفاس بريس" تنشر نص الحوار.

 ابتهج الجميع بهطول الأمطار الأخيرة في شهر مارس، مما خفف من حدة الجفاف. كيف تحكمون على كمية وتوزيع الأمطار الأخيرة؟
 لقد سبق لي في شهر فبراير المنصرم أن وصفت الظرفية المائية التي تميز الموسم ألفلاحي الحالي بأنها غير مسبوقة مقارنة بالتي شهدها بلادنا خلال الأربعين سنة الماضية. أولا بسبب تأخير هطول الأمطار في موسمي الخريف والشتاء والنقص المهول في كمياتها. تميزت أيضا بالمستوى غير المسبوق للمياه في خزانات السدود والتي لا تمثل سوى ثلث طاقتها الإجمالية. كما هو الحال بالنسبة لمستوى المياه الجوفية التي عرفت، منذ سنوات الجفاف الحاد المتتالية في أوائل الثمانينيات، التعرض لاستغلال في تزايد مستمر وتفاقما كبيرا مع تنفيذ مخطط المغرب الأخضر ابتداء من عام 2008، مع توسيع المساحات والمنتجات السقوية، وبالتالي زيادة كبيرة في الاحتياجات المائية للقطاع ألفلاحي. ناهيك عن عدد سكان البلاد، الذي هو اليوم أكثر بكثير مما كان عليه من قبل. مما تمخض عليه زيادة كبيرة للطلب على المنتجات الفلاحية الغذائية بشكل عام، والمياه بشكل خاص. الطابع غير المسبوق للظرفية المائية للموسم ألفلاحي الحالي، لكن هذه المرة بشكل إيجابي، يتجلى أيضًا من خلال وفرة الأمطار الأخيرة عبر مجمل مناطق البلاد، والتي بلغت في معدلها في شهر مارس 60 ملم، متجاوزة بذلك متوسط الثلاثين عامًا الماضية.
 
 إلى أي مدى أدت الأمطار الأخيرة إلى خفض العجز المقلق في الموارد المائية وملء السدود؟ وهل استقرت احتياطيات المياه في السدود وجداول المياه الجوفية إلى حد ما بعد هذه الأمطار؟
نظرا لوفرتها ولانتشارها الترابي الواسع، سيكون للأمطار الأخيرة آثار مفيدة فورية لكن ستبقى نسبية على ِوضعية الموارد المائية كما تؤكد ذالك أحدث البيانات التي نشرتها الوزارة المكلفة بالماء التي تظهر استقرارًا لمعدل الملء الكلي للسدود في حوالي 33٪. كما سيكون لها وقع ايجابي ،غير مباشر، على فرشة المياه الجوفية عبر تقلص استعمالها للري بشكل كبير، أو حتى بتوقفه مؤقتًا. بشكل عام، يمكننا أن نعتبر أن خطر تفاقم النقص المائي تم تحييده مؤقتا بفضل التساقطات الثلجية والأمطار الغزيرة التي أنعمت طيلة شهر مارس. وبعبارة أخرى، فإن حالة احتياطيات مياه السدود والفرشة الجوفية سوف تبقى محافظ عليها مؤقتًا وستكون أكثر حظوة إذا ما أغدقت السماء فشهر أبريل ممطر: وفرة "مياه السماء" توفر على المزارعين- سواء داخل دوائر السقي الكبير أو دوائر السقي الصغير والمتوسط، أو تعلق الأمر بالسقي الخاص - ري محاصيلهم..
إلا أن هذا التفاؤل يستوجب منا أن نظل يقظين وألا نعتقد أن الإجهاد المائي لبلدنا سيتلاشى مع هطول الأمطار الأخيرة. بل يخشى بشدة أن يتطور إلى حالة نقص تحت وطأت تغير المناخ والاستمرار في السياسات الفلاحية والقروية المتبعة. إن الاعتقاد بأن احتياطيات مياه السدود والفرشة الجوفية سوف تتحسن بشكل كبير جراء 60 ملم للأمطار الأخيرة ليس واقعيًا لأن العقود الثلاث الماضية عرفت استعمالا مفرطا للمياه أعلى بكثير من الواردات المطرية والثلجية. مما تمخض عنه النقص الحاد الذي تشهد عليه الوضعية الراهنة.
 
ما هو تقييمكم لمدى تأثير الأمطار الأخيرة على موسم الحبوب الذي اعتقدنا أنه ضاع كليا، خاصة وأن هذه الأمطار قد جاءت متأخرة نوعا ما؟
 أولاً، لا بد للإشارة أن تجاه النقص الحاد في الأمطار في بداية الموسم الزراعي وفي منتصفه، والزيادة غير المسبوقة في أسعار الأعلاف، وجد العديد من الفلاحين أنفسهم مجبرين على استعمال زراعتهم من الحبوب كمراعي لماشيتهم. كما أدى تأخر الأمطار إلى تقليص نسبي للمساحات المزروعة.
كما تجدر الإشارة إلى أن أمطار شهر مارس على الرغم من وفرتها، لن تمكن من إنقاد جميع مزروعات الحبوب الخريفية المتبقية. في هذا الصدد، تشير المعلومات والتقييمات التي تم جمعها من مصادر مختلفة إلى تطورات متباينة في هذه الزراعات حسب المناطق والأنواع والتقنيات المتبعة.
فعلى سبيل المثال، يبدو أن الشريط الساحلي للمحيط الأطلسي الممتد من شمال أسفي إلى طنجة، قد قاوم بشكل أفضل تأخر وقلة الأمطار خلال موسمي الخريف والشتاء. يعزو هذا الأداء إلى طبيعة التربة التواجد في هذه المنطقة والتأثير الايجابي لتسرب رطوبة المحيط. نموذج لوضعية مماثلة يتجلى في محور الخميسات -مكناس - فاس، حيث يتبين إن التهاطلات المطرية الأخيرة من شانها إن تفضي إلى إنقاذ جزء ليس بالهين من مزروعات الحبوب الخريفية. وسيكون الأمر نفسه في المناطق الجبلية الباردة (خنيفرة) والهضبة الوسطى (والماس) وذالك راجع بالأساس لتأخر الموسم ألفلاحي بهذه المناطق مقارنة بالمناطق المناخية الأخرى. وعلى عكس هذه المناطق، يبدو الوضع أكثر سوءا في المناطق البورية ذات الأهمية الكبرى في إنتاج الحبوب بالمغرب الشاوية السفلى والعليا، عبدة، دكالة، زعير ، تلال الغرب).
إما على مستوى أنواع زراعات الحبوب الخريفية، فان المعطيات الميدانية تبين أن الشعير صمد بشكل أفضل في مواجهة الأمطار غير الكافية والمتأخرة، مما يؤكد القدرة الأكبر التي يتوفر عليها في مواجهة الإجهاد المائي والتأقلم معه. يليه القمح الصلب ثم القمح اللين في المرتبة الأخيرة.
 فيما يخص التقنيات الزراعة المتبعة، يتبين من المعطيات الأولية أن زراعات الحبوب الخريفية الأكثر حضا لإنتاج محصول أوفر هي تلك التي تم زرعها بعد الخضروات (البطاطس، البصل) والبقوليات ( الحمص، العدس) أو في أراضي بدون أية زراعة طيلة الموسم ألفلاحي المنصرم. من جهة ثانية، أظهر البذر المباشر، مع استعمال معقلن للأسمدة، آثاره الإيجابية على تحمل شح الإمطار في بداية ومنتصف الموسم
بالنسبة للبقوليات خاصة الجلبان والعدس ثم الفول، فقد أبانت هي الأخرى على تعافيها مع الأمطار الأخيرة في مناطق الشاوية ودكالة وزعير.وسايس.
كل هذه المعطيات تحيلنا إلى المبادئ والقواعد ألأساسية للعلوم الزراعية عامة وفي المناطق الجافة وشبه الجافة بالخصوص، ولا صيما: ملائمة اختيار الزراعات وفقًا لمؤهلات المناطق الزراعية الإيكولوجية المختلفة؛ تنويع الزراعات وتناوبها لما لها من أهمية في الحماية أو على الأقل في التخفيف من المخاطر المناخية، في الحفاظ على خصوبة التربة والتنوع البيولوجي،...
فيما يتعلق بتقييم وقع الأمطار الأخيرة على زراعات الحبوب الخريفية على المستوى الوطني، صرح وزير الفلاحة خلال الاجتماع الذي عقد في 28 مارس 2022 حول برنامج الزراعات الربيعية، عن اعتقاده القوي بان مليون هكتار من هذه الزراعات يمكن أن يشهد تطورا ايجابيا للغاية. بناءً عليه وعلى إنتاجية قسوى بمعدل 20 إلى 25 قنطارًا للهكتار، فان الإنتاج الوطني للموسم الجاري لن يتعدى 20 إلى 25 مليون قنطار كحد أقصى. مما ينبئ بمدى الآثار والتداعيات السلبية القوية التي سوف تفرزها لا محالة هذه الظرفية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الوسطين ألفلاحي والقروي بشكل خاص وعلى المستوى الوطني بشكل عام.
إن التمايزات التقنية والمجالية التي أفرزتها الظرفية المناخية لبلادنا على الموسم ألفلاحي الحالي تحيلنا من جديد على أهمية تأسيس مرصد خاص لتتبع وتحليل وتوثيق ظرفية المواسم الفلاحية وتقييم إفرازاتها. وفي هذا الصدد، يستحسن التذكير بمحاولتين أثنين تمخضت كل منهما في ظرفيتين شبيهتين بطبيعة الظرفية التي يواجهها الموسم ألفلاحي الحالي.
- الأولى انطلقت خلال النصف الثاني لثمانينيات القرن الماضي التي عرف نصفها الأول سنوات متتالية من الجفاف الحاد والواسع الانتشار، وذلك في إطار ما سمي آنذاك بمشروع زراعة المناطق الجافة الذي جمع بين معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة والمعهد الوطني للبحث الزراع وتكتل لجامعات أمريكية (مياك) والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. بمبادرة من عالم الاجتماع الراحل بول بسكون وتحت إشرافه، انطلقت هذه التجربة في منطقة الشاوية العليا وبني مسكين بإقليم سطات عبر تتبع مستمر لعينة من الاستغلاليات، كان المتوخى منها خلق مرصد للظرفية الفلاحة وجعله أداة مساعدة لاتخاذ القرار خدمة للفلاحة الأسرية في المناطق الجافة وشبه الجافة. لكن سرعان ما توقفت هذه التجربة الرائدة لعدم الاستمرار في تمويلها من طرف الوكالة الأمريكية.
- أما المحاولة الثانية، فقد تمخضت تحت ظرفية الجفاف الذي ضرب البلاد سنة 2000. حينها، شرعت وزارة الفلاحة هي بلورة إستراتيجية للتأقلم مع الجفاف ومواجهة أثاره، من بين ما تضمنته إنشاء ما سمي بالمرصد الوطني للجفاف. إلا إن هذه الإستراتيجية بقيت هي الأخرى حبر على ورق والمرصد لم ير النور، اللهم الجناح الذي تمت تهيئته لاستقباله بين رحبان معهد الحسن الثاني للزراعة.

 
 ما هو وقع الأمطار الأخيرة على الزراعات الأخرى؟ على الأشجار المثمرة ؟ على المراعي ؟
 إن الإجابة عن وقع الأمطار الأخيرة على هذه المستويات تحيلنا أولا على التذكير ببعدها النفسي لما له من وقع ايجابي آني وملموس لا ينحصر على القطاع ألفلاحي والوسط القروي بل يشمل مختلف مكونات المنظومة الوطنية..
بالطبع، سيكون لوفرة الأمطار الأخيرة وقعا ايجابيا على الزراعات الربيعية بما في ذلك البقوليات (الحمص) والزراعات الزيتية (عباد الشمس) وعلى الأشجار المثمرة والخضر الموسمية بمختلف أنواعها. كما سيكون وقعها ايجابيا أيضا خاص على الزراعات العلفية (الشعير، الخرطال، أتريبليكس) وعلى المراعي وبالتالي على قطاع تربية المواشي بصفة خاصة. بفضل هذه الأمطار سوف تتحسن كما وكيفا وفرة الموارد الذاتية الصالحة لتغذية الماشية، سواء في الحقول المزروعة ذات المحاصيل التي سوف تبقى قابلة للجني وتلك التي لن يتسنى جنيها، وكذا في الأراضي التي لم تزرع هذا الموسم وفي الأراضي الرعوية. مما يشكل موردا ثمينا للإسهام خلال الشهرين أو الثلاثة القادمة، في الحفاظ على هذا القطاع الحيوي في الاقتصاد ألفلاحي. خصوصا على ضوء المعانات التي كان على مربي الماشية مواجهتها تحت وطأة تأخير وضعف الأمطار خلال فصلي الخريف والشتاء والغلاء المهول لأسعار الأعلاف، وتزامنهما مع شح مواردهم النقدية الذاتية. مما اضطر العديد منهم إلى التخلي عن بعض أو كل من ماشيتهم ببيعها بأثمنة زهيدة، مما اضعف رؤوس أموالهم (خاصة من الأغنام). مما يفضي على التساقطات المطرية الأخيرة طابعا ايجابيا متميزا إذ أحيت الأمل في نفوس المزارعين والكسابين وخففت من معاناتهم.
ومع ذلك، فان هذا التحسن يبقى نسبي ووقعه قصير المدى سوف يستنفد مع استنفاد الكتلة الحيوية العلفية المتاحة، خاصة إذا وضعنا صوب الأعين النقص الهائل لهذا الموسم فيما يخص بقايا الحبوب التي عادة ما تلعب دورا محوريا في تغذية الماشية خلال موسم الصيف. مما يعني أن الفترة الزمنية التي تشكو عادة من خصاص بين في تغطية الحاجيات الغذائية للقطيع والتي تصادف فصل الخريف سوف تبتدئ مبكرا وبالتالي أطول. لذا، من المحبذ أن يؤخذ هذا السيناريو بعين الاعتبار من طرف السلطات المكلفة بانجاز "البرنامج ألاستعجالي للتخفيف من آثار تأخر الأمطار" في برمجة المراحل المتبقية منه.ناهيك عن ضرورة معالجة كل الصعوبات والشوائب التي من شانها أن تعيق إنجاح عملية بيع الشعير المدعم (مشاكل التزويد واللوجستيك والتنظيم التوزيع؛ صعوبات السيولة النقدية لمربي الماشية؛ تفكيك كبير في العرض وعدم توافقه مع الطلب؛ ...). إذ قد تفضي إلى عزوف العديد من المستهدفين على اقتناء الكميات المعروضة عليهم. والذي قد يتفاقم مع موجة الأمطار الغزيرة التي عرفها شهر مارس. لو كان الأمر على هذا المنوال، يمكن استغلاله من خلال الحفاظ على الكميات المتبقية وتعبئتها خلال الفترة الصعبة المشار إليها سابقا.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا البرنامج كان أن يكسب الكثير في شفافية ونجاعة تنفيذه لو توفر له السجل الوطني ألفلاحي الذي كان من المقرر انجازه عبر الإحصاء العام للفلاحة الذي تم إجراؤه سنة 2016 والذي لم تنشر نتائجه إلى حد من طرف الوزارة المعنية. لو كان السجل متوفرا، لتم استثماره أيضا في انجاز السجل المتعلق بتعميم التغطية الاجتماعية لصالح القطاع ألفلاحي والعالم القروي. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار المنهجية التي اتبعت لإمداد منتجي الحليب في القطاع المنظم بالأعلاف المركبة المدعومة بالرائدة. فقد تم تحديد الكمية المخصصة لكل منتج بطريقة تشاورية بين ممثلي التنظيمات المهنة ومصالح وزارة الفلاحة، على أساس كمية الحليب المسلمة من طرف كل منتج إلى المعامل المعنية أو إلى مراكز جمع الحليب التابعة للتعاونيات، مما من شانه أن يجعل من هذه المقاربة نموذجا من حيث الشفافية والفعالية والنجاعة.
 
 أتخيل أن الإزهارً سوف يكون مبكرًا هذا الموسم، وهو ما تسموه بلغتكم: تغيير في الدورة الفينولوجية. ما هي مخاطر هذه الظاهرة؟
عند النباتات، علم الفينولوجيا هو دراسة مراحل تطورها الموسمية. للتذكير، فان مراحل حياة النبات المزهر هي الإنبات، وتطور الجذور والأغصان والأوراق ونموها، فالإزهار والتلقيح والإثمار. يعتبر الإزهار مبكرا عندما تظهر الأزهار في وقت أبكر من المعتاد. بصفة عامة، فإن الظروف المناخية هي التي هي المسبب لهذا "الاضطراب الفسيولوجي"، الذي يعتبره الباحثون مرتبط ارتباطًا وثيقًا بارتفاع درجات حرارة كوكب الأرض، الذي يشكل أحد مظاهر تغير المناخ جراء الاحتباس الحراري. يؤدي الإزهار المبكر، لاسيما عند الأشجار المثمرة، إلى تكوين ثمار ذات حجم صغير وبالتالي إنتاج متوسط جدًا إلى منخفض. على مستوى بلدنا، وبغض النظر عن آثار تغير المناخ على المستوى العالمي، فإن النصف الأول من الموسم ألفلاحي الحالي تميز بحالة مناخية غير مسبوقة: ضعف الأمطار في بداية الموسم، ثم غيابها الشبه التام على جميع أنحاء البلاد لفترة طويلة مع درجات حرارة عالية بشكل غير معتاد مصحوبة بهبوب ورياح حارة متقطعة.
تحت هذه الظرفية، تعطل النمو العادي لزراعات الحبوب الخريفية إلى حد كبير، وأسرعت درجات الحرارة المرتفعة التي سجلت آنذاك في إنهاء وتقليص مرحلة ملء الحبوب ونضجها، مما يتوخى عنه نقص كبير جدا في المحاصيل كما لن يتسنى حصاد الأراضي الشاسعة المتضررة نظرا لقصر زراعاتها، لا يدويا بالاقتلاع (النتافة) ولا بواسطة المنجل، فما بالك بالمكننة 

 
 هل يجب علينا اليوم بسبب تغير المناخ، مراجعة الدورة والفترات المناسبة للزرع وتقنيات الزراعة ونوع المزروعات؟
 بالإضافة إلى تغير المناخ تواجه بلادنا ظرفية جد مقلقة على مستوى موارده المائية ساهمت في حدتها مسببات أخرى ذاتية. خلال الخمسة عشر عاما الماضية، عرف طلب القطاع ألفلاحي على المياه زيادة مضطردة، بسبب تمديد المساحات السقوية ونظم الإنتاج المكثفة التي تواكبها والتي أسهم فيها مخطط المغرب الأخضر بقوة لما وفر من تحفيز ودعم سخيين في هذا المجال.
لمواجهة هذه الوضعية والرهانات المرتبطة، يتعين على بلدنا دعم الولوج إلى التقنيات والممارسات التي أثبتت جدواها على الصعيدين الوطني والدولي في سياقات مماثلة لأنظمتنا البيئية وأراضينا. فهناك الأنواع والزراعات والأصناف التي ذات رصيد وراثي أكثر تحملاً للجفاف والإجهاد المائي. هناك أيضًا العديد من نتائج البحث العلمي والتقني التي تستوجب تثمينها بنشر استعمالها على نطاق أوسع، كما هو الشأن حاليا في عدة مناطق بالنسبة لتقنية البذر المباشر في إطار ما يسمى ببرنامج المثمر المدعوم من طرف مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط. كما توجد العديد من التجارب في مجال الزراعة المحافظة على الموارد مثلا التي من شانها أن تفتح آفاقا واعدة لفلاحة اكبر تأقلما وصمودا للتغير العام للمناخ وللنقص المستمر في الموارد المائية.
 
 كيف نعيد تنشيط الموسم ألفلاحي الحالي الذي كانت بدايته سيئة؟
أكيد أن الأمطار الغزيرة التي أغدقت السماء طيلة شهر مارس، أعطت دفعة قوية لإحياء الأمل في الموسم ألفلاحي، اوعلى الأقل في ما تبقى منه، لما سيكون لها من آثار ايجابية على الموارد المائية وعلى بعض الزراعات وعلى الأشجار المثمرة والمراعي وتربية المواشي والغابات بصفة خاصة. زيادة على تزامنها مع الشروع في تنزيل الإجراءات الأولى للبرنامج ألاستعجالي الذي كانت السلطات العمومية قد بادرت بإقراره بهدف التخفيف من آثار تأخر الأمطار وضعفها. إذ من المرجح أن يؤدي هذا التزامن دفعة إضافية في تنشيط الموسم ورفع المعنويات في الوسط المهني ألفلاحي.
إن الانطلاق المبكر(بداية شهر أبريل، أي ثلاثة أشهر قبل المدة المعتادة) لتعويض المزارعين المتضررين المعنيين عبر التعاضدية الفلاحية المغربية للتأمين ،وتحريك التدابير المعلن عنها في إطار البرنامج ألاستعجالي فيما يخص إعادة جدولة الديون المستحقة وفتح خط ائتمان مخصص لتمويلات خاصة من طرف مجموعة القرض ألفلاحي للمغرب، لم شانها أن تجعل ولو نسبيا المعنيين من زبائنهم، في وضع تمويلي أفضل وتساهم في تحفيزهم على الاستثمار في الزراعات الربيعية والتزويد بالأعلاف لماشيتهم. إلا أن هذه التدخلات للبرنامج ألاستعجالي تبقى محدودة في الفئات المتعاملة مع هاتين المؤسستين، والتي لا تشكل الأغلبية لمجموع الوحدات الفلاحية المتواجدة في البلاد والتي يناهز عددها مليون ونصف.
ومن جهة أخرى، يستوجب على السلطات والجهات المعنية أن تظل يقظة تجاه الإشكالات التالية بغية تخفيف اكبر للمخلفات السلبية التي أصابت الموسم ألفلاحي: أولا، وقاية البرنامج ألاستعجالي من العقبات والشوائب التي قد تحد من ايجابياته؛ ثانيا، تهيئة الظروف المواتية لتسويق وتثمين منتجات الموسم مع ضمان اثمنة عادلة في حق المنتجين من مزارعين ومربي الماشية؛ ثالثا، وقاية الثروة الحيوانية من مخاطر نقص الموارد الغذائية خلال موسمي الصيف والخريف المقبلين؛ رابعا، المباشر الآنية والحثيثة لإعداد الأحكام والتدابير التي يتعين اتخاذها لتهيئ للشروط الضرورية لانطلاقة الموسم المقبل التي سوف تكون محفوفة بالعديد من الإكراهات، خاصة منها افتقار المنتجين لمخزون ذاتي من البذور وأعلاف الماشية والسيولة نقدية الناجم عن النقص الكبير في مردود الموسم الحالي، والمستوى المتدني حاليا للموارد المائية السطحية منها (الأنهار وخزانات السدود) والجوفية والذي سيزداد عجزها إلى أن تجود السماء بالأمطار والثلوج في غضون الموسم المقبل.

خاتمة:
إن الظرفية المناخية والمائية للموسم ألفلاحي الحالي وما يتبن من تحليل الآثار المترتبة عنها، يحيلنا مرة أخرى إلى التذكير بالتوجهات التي يستحسن أن تؤخذ بعن الاعتبار في اختياراتنا الآنية والمستقبلية: أولا، ضرورة دمج الجفاف كعامل هيكلي سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا. ثانيا، مراجعة النموذج ألفلاحي المتبع وبلورة نموذج متجدد يأخذ بعين الاعتبار القضايا الكبرى والتحديات الصاعدة (تغير المناخ، السيادة الغذائية، استدامة الموارد الطبيعية، الحفاظ على البيئة، النمو السكاني والتحضر الناتج عنه، إعداد الترابي الوطني، العدالة الاجتماعية والمجالية،الخ). نموذج يرتكز في تصميمه على أسس مجالية وأبعاد الجهوية وقابل أن يشكل مرجعا موحدا للسياسات العمومية المختلفة ضامنا للتقائيتها وتكاملها وتنسيقها وانسجامها. نموذج يتلاءم وتكييف مع الوضع الآني للموارد في المياه العذبة المتوفرة للبلاد ومع انحناءها التنازلي جراء استغلالها المفرط واستنزافها ومع تغير المناخ الناجم عن الاحتباس الحراري العام. مما يستدعي تدخلا حازما وعميقا بهدف مأسسة وترسيخ حكامة أنجع في استعمال المياه بشكل عام وفي القطاع ألفلاحي بشكل خاص. نموذج قد يساءل النموذج الغذائي السائد قصد استشراف نموذج بديل للحاجيات الأساسية لبلادنا في هذا المجال، يوفر تحقيقه ملائمة أنجع مع الإمكانات الذاتية لفلاحة اكبر مقاومة في المستقبل، مما قد يستدعي الشروع في بلورة ومبادرة سياسات للتوعية والتربية لإعداد الأجيال القادمة في هذا الاتجاه. ثالثا، مواصلة الاستثمارات في تعبئة موارد مائية إضافية عن طريق تحليت مياه البحر لاستعمالها للشرب خصوصا، ومعالجة مياه الصرف الصحي لاستغلالها في الأنشطة الفلاحية. رابعا، ضرورة إعطاء العناية الضرورية لزراعات الحبوب الوطنية لما لها من وظائف الإستراتيجية متعددة (غذائية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية وبيئية). وفي هذا الصدد، وجب التذكير بان الحبوب الخريفية الثلاثة الرئيسية (القمح الصلب، القمح الطري والشعير) لا زالت لوحدها تغطي ما يناهز4 إلى 4.5 مليون هكتار، مما يمثل 40 إلى 50% من المساحة الصالحة للزراعية الإجمالية في البلاد. كما يجب التذكير بان هذه الزراعات لا زالت تمارس وباستمرار من طرف الأغلبية الساحقة للاستغلاليات الفلاحية في مختلف المناطق؛ خامسا، ضرورة نهج سياسات تنمية قروية مجالية كفيلة بجعل المجالات القروية أكثر جاذبية والأنشطة الاقتصادية بداخلها متنوعة بدرجة كافية، إذ بدونها لن يتأتى لفلاحتنا أن تتحمل وتقاوم بنجاح الإكراهات والتحديات الكبرى الراهنة منها والمستقبلية.
في هذا السياق وبهدف إطفاء الطابع المجالي الضروري للنموذج التنموي المتوخى، عبر ملائمة وتكييف البرامج والمشاريع مع الخصوصيات والحاجيات المحلية والجهوية، يكتسي إسهام البحث العلمي والتقني في هذا المجال أهمية بالغة وضرورية، إلا أن الوضع الحالي للمنظومة الوطنية البحثية غير خال من إكراهات تحد من هذه المساهمة وذلك رغم التوسع العددي البين الذي ما فتئت تسجله خلال العقود الأخيرة الذي يشكل في حد ذاته تطورا ايجابيا. لكون هذا النمو لم يواكب برصد موارد بشرية واعتمادات مالية موازية كافية لكل مؤسسة على حذا. اعتبارا لهذا الوضع وفي انتظار تحسينه مستقبلا، يبقى البديل المتاح هو التعبئة الجماعية والاستثمار المشترك بين مكونات المنظومة عبر إنشاء شبكة مجالية من مراكز الامتياز للبحث والبحث التطبيقي ذو البعد التنموي، يمكن لها مثلا أن تستند في تشكيلتها على تعتمد على الهياكل الجهوية التابعة للمعهد الوطني للبحث الزراعي.