الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

في كتابة تاريخ تازة.. من التخبط المعرفي إلى التأسيس المنهجي

في كتابة تاريخ تازة.. من التخبط المعرفي إلى التأسيس المنهجي صورتان لمعالم من مدينة تازة

لعل الضيم المجاني الذي تعرضت له مدينة تازة وإقليمها، يطرح أكثر من تساؤل على مستوى الكتابة التاريخية في أفق أن تأخذ المنطقة حقها من الإنصاف، ونقصد هنا إعادة النظر في المراحل السابقة، التي اتسمت بالارتجالية والتخبط وقلة المسؤولية،  وبالتالي تحقيق التراكم المطلوب وبشكل موضوعي ينأى عن كل الأحكام المتسرعة أو الأنماط الجاهزة، الهم الأساس هنا يتمحور حول البحث في الوثائق والمخطوطات والمظان والحوليات المختلفة وفرز الرصين من المتهافت، ومن ثمة إعادة الاعتبار لهذه المنطقة التي لعبت أدوارا مهمة في تاريخ الدول المغربية، وأيضا على مستوى التاريخ الاجتماعي والفكري وتاريخ الذهنيات.

 

إن المتأمل في ما كُتب حول تاريخ منطقة ممر تازة وحوض إيناون، إلى حدود سنة 2014 سرعان ما يُحبَط لقلة ما تراكم وحتى الفترة المعنية، مع أن تازة والأحواز كانتا حاضرتين في الأحداث الكبرى التي ظلت البلاد على موعد معها، يكفي ذكر ميلاد أو نشاط بعض الدول في المنطقة كدولة الأدارسة والموحدين وبني مرين وانتهاء بالعلويين، وكذا في نهايات دول أخرى كالمرابطين والسعديين، وذلك حسب كل المظان والوثائق التاريخية المتوفرة حاليا، ومع ذلك ظلت هناك بياضات كبيرة في ذات الكتابات التاريخية، وأمام تنامي نشاط المونوغرافيات ("المبحثة" بتعبير عبد الله العروي) أي الدراسات التاريخية المتعلقة بحيز جغرافي معين أو منطقة محددة من مناطق المغرب، أمام هذا التنامي، ظلت المونوغرافية المتعلقة بمنطقة تازة ضعيفة بل وبئيسة جدا، لا ترقى إلى تجميع وتوظيف ما أمكن أو مساءلة الرصيد الوثائقي المعروف منذ الحوليات المغربية والمشرقية للقرون الوسطى وحتى الكتابات الفرنسية والأجنبية عموما حول المنطقة، فكان من اللازم تصحيح هذا الوضع، ومحاولة كتابة تاريخ رصين لتازة والأحواز يأخذ بالاعتبار كل من أشار إليها أو قدم جانبا من جوانبها التاريخية والحضارية، ومقارنة وتمحيص ما يجب تمحيصه أو نقده ورفضه أيضا، ولا يهم حجم أو طبيعة ما ورد في المصادر والوثائق المختلفة وحتى الدفينة منها، لأن المعلومة التاريخية قد تأخذ أشكالا متعددة، تنطلق من جملة بسيطة مبثوثة هنا أو فقرة وردت هناك، فالعبرة بمادتها ودلالاتها بالنسبة للمنطقة، إذ تهم الباحث حمولتها التاريخية في نهاية المطاف وليس حجمها، وطبعا لم تكن الانطلاقة الجديدة من فراغ، فقد سبقتنا جهود قليلة لكن معتبرة في هذا السبيل رغم أنها لم تصل إلى مستوى التراكم المطلوب الذي قد ينفع الجميع، باحثين ومهتمين.

 

ظل المؤرخون في العصور الماضية والباحثون خلال الفترة الحديثة، يقفون عند مفصل فريد من نوعه مجاليا وجغرافيا وبشريا، ويتعلق الأمر بـ "ممر تازة" الذي يعد عتبة أساسية تنفتح على سهوب المغرب الشرقي، ثم على غرب المغرب الممتد إلى حدود شواطئ المتوسط والأطلسي، فقد ورد الممر وخصائصه المجالية وتجمعاته البشرية عند أقدم المصنفين وأصحاب الحوليات المغاربة والأندلسيين ثم المشارقة والأجانب، مما يدحض تماما خرافة ندرة ما ورد حول تازة وممرها في المصنفات والمظان القروسطية والحديثة، إنها خرافة تعود في نظرنا إلى القفز على حقائق التاريخ والمجال، بل أكثر من ذلك وأخطر إلى نوع من الكسل الفكري والتراخي المعرفي، حسب ما ورد عند العلامة عبد الله كنون في تقديمه لكتاب "أضواء على ابن يجبش التازي" للمرحوم أبي بكر البوخصيبي، ويرفده في ذلك العلامة عبد الهادي التازي في ندائه الشهير للتازيين/ت قصد الانكباب على كتابة تاريخ مدينتهم والتي وصفها بالماسة (نوع من الحجر الكريم أو الجوهر النادر) وقد نذهب بعيدا إلى حد ملاحظة التبخيس غير المؤسس واللامشروع للمنطقة، بحيث يمكن على العكس واعتمادا على الوثائق والمظان والمصنفات المعنية، يمكن التأكيد، بأنه لا يستطاع كتابة تاريخ المغرب بمختلف مراحله دون ذكر تازة وممرها، ومن هنا نشد بحرارة على من سبقنا لإنصاف المنطقة، إن على مستوى البحث التاريخي الأكاديمي أو على صعيد المؤلفات التعريفية الموجهة لعموم الجمهور المهتم، ولا بد أن نذكر هنا أطروحتي الأستاذين: المرحوم توفيق أكومي حول المقاومة بمنطقة تازة (وردت اقتباسات منها في مذكرات من التراث المغربي الصادر عن الخزانة العامة والأرشيف بالرباط سنة 1985) وكذا أطروحته حول التطور العمراني لمدينة تازة المقدمة سنة 1979 La croissance de la ville de Taza et ses conséquences sur la disharmonie urbaine  ، ثم أطروحة "التراث المعماري بتازة" للأستاذ مبروك الصغير (ابن مدينة تاوريرت) علاوة على الكتاب الرائد للمرحوم أبي بكر البوخصيبي الذي عمل مفتشا للتعليم الابتدائي بتازة بين سنتي 1966 و1973 ورغم أنه ينتمي إلى مدينة آسفي، فقد أخذت تازة بمجمع فؤاده فكتب عنها أول مؤلف من نوعه يعرف بها وببعض تاريخها وأعلامها خاصة المجاهد الصوفي أبي عبد الله بن يجبش، "أضواء على ابن يجبش التازي" وقد نال به جائزة المغرب الثانية للكتاب سنة 1972، وصدر سنة 1976 ويضاف إلى هذا الكتاب الرائد مؤلف آخر صدر بعد الأضواء بعشرين سنة (إيه والله) ويتعلق الأمر بكتاب "ابن بري التازي إمام القراء المغاربة" للعلامة المرحوم ج امحمد بن احمد الأمراني والذي صدر سنة 1996، عن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وبأمر من الملك الراحل الحسن الثاني وتقديم لكل من عبد الهادي التازي وعبد الكبير العلوي المدغري وزير الأوقاف السابق

 

لم تلق تازة بعد هذا سوى الجحود والتجاهل بل وترويج الأكاذيب والخرافات، حتى في خضم قلة ما ورد حول تاريخها وتراثها، ولن نتعرض للكتابات الأجنبية وهي وفيرة، ونشير هنا فقط إلى أن ما أنقذ وضعية البحث التاريخي المتردية حول المنطقة يتمثل في بضع أطاريح جامعية رصينة لباحثين شباب، تمحورت حول المقاومة بالمنطقة والظاهرة القايدية والأوضاع الاجتماعية خلال فترة الحماية، وكذا بعض قبائلها كبني وراين والبرانس والتسول وغياثة واجزناية، خاصة جوانب من مقاومتها المسلحة ضد الاستعمار، إلى أن فتحنا بعون الله صفحة جديدة سنة 2014 لإنجاز التصالح المأمول بين تازة وتاريخها، متمكنين من تحقيق تراكم محترم يصحح ويؤسس لكتابة تاريخية ذات مصداقية، جعل (أي التراكم) تازة تتبوأ مكانتها اللائقة بين الحواضر المغربية العريقة، ونظرا لتشعب تاريخها وارتباطه بمختلف الأحداث الكبرى التي شهدها المغرب سواء حينما كانت العاصمة هي فاس، أو مراكش، فالاتجاه العام ظل هو الارتباط بالعاصمة العلمية وبوظيفة دفاعية صلبة كحصن حصين شرقا وغربا، ولما سجل الباحثون أن ممرها شهد عبور القوافل التجارية والجيوش والحركات السلطانية ومواكب الحجاج ، فقد خرجت إلى الوجود نصوص رحلية محترمة تقدم مشاهد وانطباعات حول المدينة وباديتها وبعض من مجالاتها البشرية والرمزية، وهذا غيض من فيض، وضمن سياق إغناء التجارب المحلية في الكتابة المونوغرافية انفتح مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث على الطاقات التازية في مختلف أماكن تواجدها، فضلا عن إرساء علاقات علمية عميقة بالعديد من مراكز البحث وكليات الآداب بالمغرب وخاصة شعب التاريخ بكل من فاس سايس، كلية الآداب بوجدة، كلية الآداب بمكناس وبالقنيطرة والرباط، وذلك بعد أن سجل غياب شبه تام للتقاليد العلمية والأكاديمية طيلة المرحلة السابقة بتازة، فضلا عن عدم وجود مؤسسات ذات معنى، مما فتح المجال أمام الأراجيف وأشكال الهلوسات التي لا علاقة لها بمجال التاريخ ومناهجه وطرقه العلمية والأكاديمية .

 

إن بؤس ما قدم إلى حدود سنة 2014 يفرض على الباحثين والمهتمين مضاعفة الجهود من أجل تثمين ما تراكم لحد الآن وتطويره نحو إرساء مثل تلك التقاليد كما هو الشأن في حواضر أخرى، وقد تعززت الجهود المستمرة بتأسيس مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث في بحر سنة 2019 ثم بصدور كتاب "تازة خلال السنوات الحرجة للتهدئة: 1912 – 1925" للأستاذ عبد السلام انويكة بتقديم عميد كلية الآداب فاس سايس الأستاذ سمير بوزويتة، وصدور كتابنا الجديد مؤخرا "تازة عبر الرحلات الجغرافية والاستكشافية والحجية/ نماذج من العصرين الوسيط والحديث" بتقديم للأستاذ عبد العزيز بل الفايدة رئيس مركز الدكتوراه وأستاذ التاريخ بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، مما عزز الرصيد الوثائقي حول المنطقة والذي وصل لحد الآن إلى 11 كتابا أما المقالات فلا تعد ولا تحصى .

 

نحن نعلم أن أنشطة البحث في العلوم الإنسانية عامة وعلى مستوى حقل التاريخ على وجه الخصوص ذات خصوصية مفتوحة أولا وتحتاج جهودا جماعية وأجندات مكثفة لمراكز البحث ومختبراته ومواقعه ثانيا، لأن أنشطة  التنقيب عن الوثائق وتحقيقها إذا اقتضت الضرورة وطرح الإشكالات، وكما تُجري راهنا، تبقى في كل الأحوال قاصرة عن بلوغ المستوى المطلوب، ولكن إسهاماتنا مع ذلك نعتبرها تقدما أساسيا في هذا السبيل.

 

- عبد الإله بسكمار، رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث