Monday 15 December 2025
كتاب الرأي

عبدالفتاح الصادقي: مآسي فاس وآسفي.. عندما يورط التهاون المسؤولين عن تدبير الشأن العام

عبدالفتاح الصادقي: مآسي فاس وآسفي.. عندما يورط التهاون المسؤولين عن تدبير الشأن العام عبدالفتاح الصادقي

تعرض المغرب مؤخرًا لكارثتين منفصلتين، متشابهتين في طبيعة مخلفاتهما وأضرارهما، لكنهما تشتركان في أسباب جوهرية متشابهة، يتعلق الأمر بانهيار بنايتين في فاس والفيضانات في آسفي، حيث أسفرت هذه الأحداث المأساوية عن خسائر في الأرواح وإصابات وخسائر مادية جسيمة، تاركةً وراءها عائلات مفجوعة وأحياءً تحمل آثارًا مدمرة لا تُمحى من ذاكرة الجماعية .

وبينما يُثير حجم الدمار مشاعر الحزن، فإنه يستدعي في المقام الأول تأملًا جادًا بخصوص ما حصل وكيف حصل و من يتحمل المسؤولية عما حصل. لم تكن هاتان الكارثتان مفاجئتين أو غير متوقعتين. ففي فاس، كانت هشاشة المباني القديمة وانتشار البناء غير المطابق للمواصفات والمخالفة للقانون في كثير من الأحيان أمرًا معروفًا لدى القاصي والداني. أما في آسفي، فقد تم الإبلاغ مرارًا وتكرارًا عن خطر الفيضانات، والخبراء والفنيون يعرفون أن المنطقة معرضة لخطر الفيضانات الأمر الذي حصل في الماضي، ومع ذلك لم يتخذ المسؤولون عن تدبير الشأن العام تدابير وقائية فعّالة.

لقد تسبب غياب التطبيق الصارم لمعايير البناء، إلى جانب أوجه القصور في التخطيط الحضري وإدارة المخاطر، إلى تحويل التهديدات المُتوقعة إلى مآسٍ حقيقية. وطغى نهج رد الفعل على نهج التوقع والوقاية، والتفكير في التعويض عن الضرر على الحماية منه.

لاشك أن هذه الأحداث تُذكّرنا، بوضوحٍ تام، بأن حماية المواطنين لا يُمكن ضمانها دون حكامة قائمة على المسؤولية، وبعد النظر، والتطبيق الفعال للقوانين الجاري به العمل. ودون الالتزام بذلك، ستظل الكوارث هي الثمن القاسي للتقاعس.

إن المآسي التي وقعت في فاس، حيث انهارت المباني على سكانها، وفي آسفي التي ضربتها فيضانات مدمرة مرارًا وتكرارًا، ليست حوادث عرضية ولا مجرد كارثة طبيعية، بل هي التعبير الأكثر دلالة عن ظاهرة متجذرة، تتمثل في التطبيع مع الإهمال الإداري والسياسي في مواجهة المخالفات المرتكبة والمخاطر المعروفة. فعندما تعجز مصالح الدولة عن فرض احترام القانون وعن التنبؤ والسيطرة والحماية، تتوقف الكارثة عن كونها طبيعية لتصبح مؤسساتية وهيكلية.

ففي فاس، لا يُعدّ انهيار المباني سواء القديمة أو الجديدة بشكل عشوائي حدثًا غير متوقع، ذلك أن المسؤولين يعرفون جيدا أن العديد من مباني المدينة تتسم بالهشاشة، حيث حالة التدهور المتقدمة لبنايات محددة، إلى جانب انعدام برامج الصيانة، وإدخال التعديلات غير القانونية التي يتم التسامح معها، بل وتشجيعها، بمبرر الحفاظ على الاستقرار السلم الاجتماعي

لابد من الإشارة إلى قيام الملاك بتعديل منازلهم دون الحصول على ترخيص قانوني مكتوب، بالرغم من أنهم يعرفون أن الأمر مخالف للقانون، وأن إقدامهم على ذلك قد يتسبب في حصول كارثة، ولكن حجة المسؤولية الفردية في حق المخالفين تصبح مغالطة وتهربا من تحمل المسؤولية، خصوصا عندما تتجاهل السلطات المحلية الأمر لسنوات، ويتم إهمال التقارير الفنية، ولا يتم الالتفات إلى الإشعارات الرسمية، ولا تتحرك هذه السلطات لضمان احترام القانون..

إن التقاعس الإداري يُعدّ بمثابة تواطؤ بالتقصير، فعندما تسمح السلطات العمومية باستمرار أعمال البناء الخطرة والمخالفة للقانون، فإنها تقبل ضمنيًا بأن هذه المباني ستنهار يومًا ما، ليس على الأثاث والممتلكات فقط ، بل على الأرواح البشرية كذلك.

وهناك أمر مهم لابد من الانتباه إليه وهو أن الذين يلجئون إلى البناء العشوائي . غالبا من يكونون الأسر من ذات الدخل المحدود، حيث يجبرون على العيش في مساكن متداعية لعدم وجود بدائل. وهو الأمر الذي كان ينبغي على الدولة أن تعالجه باسم الحق في السكن الآمن، ولكنه عوض ذلك تخلّت عن السكان وتركتهم لمصيرهم المحتوم. إن قوة مصالح الدولة لا تقاس بقدرتها على التدخل بعد وقوع الكارثة فحسب، بل بقدرتها على حماية المواطنين من المخاطر المتوقعة، والتطبيق العادل للقانون، وضمان ظروف معيشية آمنة.

أما بالنسبة لمأساة آسفي ، فالفيضانات لا تُعدّ ظاهرة جديدة أو استثنائية، ذلك أن واد الشعبة كان مصدر خوف لدى السكان خلال عقود وعصور، والفيضانات جزء من ذاكرة جماعية للكوارث المتكررة، والتهديدات معروفة لدى السلطات المحلية والمركزية على حد سواء، بالإضافة إلى أن هذه المدينة التاريخية ظلت تعاني من التهميش والإقصاء بخصوص المشاريع التنموية وتطوير البنيات التحتية.

والأكيد أن الفيضانات الأخيرة تكشف عن بعض الحقائق المقلقة، تتمثل في غياب سياسات جادة لتصريف المياه في المناطق الحضرية، ولتوسع العمراني العشوائي في المناطق المعرضة للخطر،إلى جانب تجاهل الدراسات الهيدرولوجية.

ويمكن القول إن الأحداث المأساوية التي عرفتها أخيرا كل من فاس وأسفي تُجسد نفس الخلل المنهجي، المتمثل في غياب التخطيط الحضري الدقيق، وإنكار المخاطر، وإعطاء الأولوية للمصالح قصيرة الأجل والتركيز على ظهر السلم الاجتماعي.

والحقيقية أن ما وقع في فاس وآسفي ليست حوادث معزولة، بل هي أعراض ملموسة لسوء التدبير، ومؤشرات نموذج تسيير يتسم بثلاثة جوانب سلبية في تدبير الشأن العام ، الجانب الأول يهم رد الفعل اتجاه المآسي والكوارث بدلًا من توقعها وتجنب تداعياتها، والثاني يركز على التواصل بعد وقوع الأزمات ويغفل الوقاية منها، والثالث يميل إلى التعويض عن الأضرار المترتبة عن هذه الكوارث في الوقت الذي كان من المفروض التركيز على الحماية منها..

ففي آسفي، كما في غيرها، يتحرك المسؤولون عن تدبير الشأن العام بعد حصول الكارثة، وتحت ضغط وسائل الإعلام، مع وعود بالتعويضات، لكن بمجرد ما تنحسر الصدمة الأولى، وتتلاشى مشاعر الحزن والأسى، تبدأ دورة النسيان من جديد، في انتظار الكارثة المقبلة أو الفيضان المفاجئ.

والواقع أنه طالما لم تُحدد المسؤولية بوضوح على المستويات الإدارية والسياسية، والجنائية، إذا كان الأمر يستدعي ذلك، فإن مظاهر الإهمال والتقصير ستتواصل وأضرار الكوارث و المآسي ستستمر، فحيثما يتخذ الإهمال واللامبالاة طابعا مؤسساتيًا، تصبح الكارثة حتمية..

 عبدالفتاح الصادقي ، باحث و إعلامي