ملاحظات عن المؤتمر الدولي الأخير بكلية الآداب بمراكش
شهدت القاعة الفخمة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض بمراكش مؤتمرا دوليا يومي 5 و6 دجنبر عن الاضطرابات النفسية والاجتماعية المعاصرة. وقد شاركت فيه ثلة من أكابر العلماء والباحثين من المغرب وخارجه بأبحاث متميزة تشي بتجربة وحنكة وباع في مجال البحث والممارسة على السواء. كل ذلك بإشراف رئيس شعبة علم النفس الأستاذ مصطفى السعليتي الذي أبان عن مهارة كبرى في لم شعث علماء النفس وعدد من المختصين في الطب النفسي وعلم الاجتماع والطلبة الباحثين الذين حجوا من مدن وجامعات مختلفة لتدارس أزمات الإنسان المعاصر وتمزقاته في سياق العولمة الكاسحة وهيمنة العالم الافتراضي الموغل في الرقمنة. وقد نجحت البحوث على تباينها في تناول المظاهر النفسية والاجتماعية والثقافية والطبية النفسية للأزمات والاضطرابات المذكورة وصفا واستكشافا وتحليلا وتعليلا. وبوسعنا أن نجمل المحاور التي انتظمت في البرنامج العام للمؤتمر على النحو التالي :
تداعيات الرقمنة والذكاء الاصطناعي: تطرقت عدد من المداخلات إلى الواقع الافتراضي وما يتسبب فيه من تغيرات تمس الذات المعاصرة الموصولة بالأجهزة الرقمية. وهذا ما حدا بالبعض إلى أن يتحدث بلفظ "الأنا السبرانية" التي تستقوي بالمنجزات التقانية في تمديد الوعي والتمثل والتفكير بمساعدة الهاتف الذكي وما جاوره من الأجهزة. وعلى هذا النحو يغدو الإنسان كائنا هجينا ذا هوية داعية للتبدل والتحول، وذاتا مجردة من الصبغة الوجدانية والدفء والمودة في القربى. ومن شأن التنشئة الاجتماعية الخوارزمية أن تستحدث ذاتا رقمية لها سماتها وخصائصها وإحساسها الواهم بالحرية مع تصاعد "الفردانية المغشوشة" وتشييء الإنسان والمفارقة الصارخة بين وعود الذكاء الاصطناعي ومخاطر الهيمنة والطغيان. وتناولت باحثة نفسية الاستعمال المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي واستثمار بعض الحالات الفردية استثمارا زائفا يقف على مشارف الهذيان الجماعي.
محور الاضطرابات المرضية: تناول هذا المحور مظاهر الصراع النفسي الجديد و"أزمة الهوية" التي تتربص بالإنسان المعاصر نتيجة التغيرات الشديدة التي أصابت مختلف مظاهر الحياة المعاصرة وأفضت إلى احتدام ظواهر مرضية شتى مثل الإدمان الالكتروني والهُجاج والتحرش الجنسي والطفرات المتصلة بهويات النوع الجنسي وما تعج به من تناقضات ومآزق في كثير من الدول الغربية في سياق مجتمعي متسارع. كل ذلك يفضي إلى "ضريبة انفعالية وإنهاك نفسي" باهض يؤديه الإنسان المعاصر من صحته وسلامته النفسية كما يحصل لبعض المهنيين في قطاعات معينة كقطاع الفندقة والسياحة. وثمة أشكال جديدة ومتجددة للتعبير عن الجسد بعد طغيان وسائل التواصل الاجتماعي وبروز الاهتمام المفرط بالمظهر وما ينشأ عن ذلك كله من مكابدة ومعاناة شديدتين. وتدخل في هذا المحور كذلك مقاربة نفسية مرضية للحب في نظرية وحدة الوجود للصوفي الشهير ابن عربي تقدم بها باحث في التحليل النفسي.
محور الإرشاد والعلاج النفسي: هناك عدد من المستجدات في مجال الاختيار المهني مثل "تصميم الحياة" بوصفه أداة يتوسل به الشباب في اختياراتهم في الحياة ومساراتهم المهنية بهدي من فتوحات الذكاء الاصطناعي، ونموذج اتخاذ "المقاربة النفسية العلاجية الدمجية" في التكفل بمرضى بالسرطان. وقد تناول أحد المحاضرين ما تطرحه بعض الاضطرابات العصبية النمائية مثل اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة واضطراب طيف التوحد وما يستتبعهما من إجراءات علاجية مستجدة في عصر الرقمنة.
طرق التفسير والتأويل: سلط بعض المؤتمرين الضوء على التيارات الشائعة في تفسير الظواهر والاضطرابات النفسية المعاصرة وأزمات الهوية والنوع الجنسي. ويظهر أن ثمة نزعة طاغية في الوقت الراهن تنزع إلى تفسير الظواهر النفسية تفسيرا عصبيا يجردها من صبغتها الوجدانية ليضفي عليها صبغة عضوية محضة بدافع التفسير العلمي المزعوم ! بيد أن البعض ينحو منحى اجتماعيا أو ثقافيا بل تحليلا نفسيا بدافع التخصص على الأغلب في مقاربته لمثل هذه الاضطرابات والأزمات النفسية والاجتماعية المعاصرة. غير أن المتأمل لمعظم العروض يجد أن الطرق المتبعة في التفسير والتأويل قابلة للتكامل فيما بينها على صعيد الفهم والتعليل لتشعب الظواهر البشرية واستعصائها على أن تنحل إلى أسباب واحدة ووحيدة عصبية كانت أم نفسية أم اجتماعية أم ثقافية.
وأما القضايا التي أثيرت في ثنايا العروض أو في حصص المناقشة بمشاركة الجمهور الحاضر فهي باقتضاب:
المشكل الاصطلاحي: ثمة هوس ظاهر لدى البعض بالاصطلاحات الأجنبية أمثال "السيكولوجيا" و"السيكوباثولوجيا" و"الاكلينينيكا" و"السينتوم" و"الميديا" بدل الاصطلاحات العربية الفصيحة. ناهيك عن عدم التدقيق الاصطلاحي أو الخلط بين الاصطلاحات مثل "التعاطف" و"الاستمهاء" مثلا أو اعتماد الاصطلاحات المترجمة مثل "الاستماع الفاعل" بدل "الإنصات". وفي هذا الباب اعترض أحد المحاضرين على استعمال لفظ "الزبون" بدل "المرتفق" أو "المسترشد" أو "المريض". أما اصطلاح "الهُجاج" الذي استحدثه كاتب هذه السطور للدلالة على الهروب من المنزل، وهو اضطراب نفسي بات شائعا في أيامنا هذه، فقد أثار ردودا كثيرة تدل على حرص الكثيرين على استلهام الرصيد اللغوي القديم والعامية المغربية في نحت الاصطلاحات المستجدة. وأما زملاؤنا الفرنسيون فيُؤخذ عليهم استخدام اصطلاحات ذات حمولة مرضية ثقيلة الوطء مثل مصطلح "التفكك" (الديسوسياسيون) و"العُظام" (البارانويا) للدلالة على ظواهر نفسية مألوفة لا تصل إلى حد الاضطراب العقلي المزمن كانفصام الشخصية وجنون العظمة.
المشكل الثقافي: أثيرت مشكلة البعد الثقافي والتثاقفي في أكثر من مداخلة ومنها تلك التي تطرقت لتيار التحليل النفسي وانتقاله إلى بعض دول العالم العربي كالمغرب. فلطالما قيل إن البلدان العربية تقاوم التحليل النفسي وتصد اقتحامه للثقافة العربية وفات هؤلاء أن ينتبهوا إلى أن المقاومة قد تكون صادرة عن التحليل النفسي وأصحابه أنفسهم لا من المجتمعات العربية والإسلامية. وهو أمر تنبه إليه أنصار الفكر ما بعد الاستعماري وتعقبوا أثر المركزية الأوربية والغربية في ثنايا كثير من العلوم الإنسانية وفي مقدمتها التحليل النفسي وما ينطوي عليه من إشكاليات جمة تتكشف بجلاء في "علاقة الذات العربية بالآخر في الممارسات العيادية" على سبيل المثال لا الحصر.
انعدام المرجعية العربية: من ذلك مثلا أن باحثا في التحليل النفسي ذكر أن لمفهوم "الهستيريا (أو الهرع) تاريخا قديما يبدأ من الأزمنة الغابرة وتاريخا عياديا معاصرا وأغفل تاريخ هذا المفهوم في الميراث العربي ؛ هذا الميراث الذي ميز فيه علماؤنا القدامى قبل عدة قرون بين "الصَّرْع الطبيعي" (أي الصرع العصبي) و"الصَّرْع الروحي" (أي الهستيريا) وهو ما تتجاهله جل المراجع الأجنبية التي دأبت على القفز من المرحلة الإغريقية إلى العصور الحديثة دونما ذكر للمرحلة العربية إلا قليلا. وقد أقر الباحث المغربي في معرض المناقشة بجهله التام للتاريخ العربي لهذا المفهوم. وقل مثل ذلك عن السر الأعظم للتحليل النفسي حسب جاك لاكان وهي القولة الشهيرة "لا آخر للآخر"، إذ لم ترد في مداخلة باحثنا هذا ما يثبت صلتها بشهادة أن "لا إله إلا الله" أو ينفيها ! هذا مع أن باحثا سابقا نبه على أن المقولة اللاكانية المذكورة ربما كانت صدى لشهادة التوحيد هذه.
بقي أن نلاحظ أن المؤتمر إنما هو في حقيقته أقرب ما يكون إلى مؤتمر عربي فرنسي منه إلى مؤتمر دولي بالمعنى الدقيق لهذا الوصف. وما ذلك إلا لأن ما يقارب ثلثي المداخلات (عشرين مداخلة) إنما تمت باللغة الفرنسية مقابل سبع مداخلات فقط ألقيت بالعربية. ولما لم تتوافر الترجمة الفورية تعذر على الباحثين القادمين من فرنسا تتبع مداخلات زملائهم العرب والتفاعل معها والرد عليها، وبذلك انتفت الفائدة المتوخاة من الازدواج اللغوي بالنسبة للزملاء الفرنسيين إلا ما كان من اللقاءات المنفردة مع بعض هؤلاء خارج الجلسات الرسمية. وأما المشاركون العرب فهما أستاذة باحثة قدمت من جامعة تونس العاصمة وطبيبة ومحللة نفسية سورية ألقت مداخلتها عبر التناظر المرئي. ومن الأسف أن الذين حاضروا عن بعد لم يتسن للجمهور محاورتهم والرد عليهم فضاعت فرصة ثمينة كان حريا بالمنظمين الانتباه إليها واستدراكها.
وما عدا ذلك فقد تتالت الجلسات في جو علمي ودي وتناظر فكري آخذ في الزوال والاضمحلال في كثير من ملتقياتنا الفكرية ومؤتمراتنا الجامعية. ويرجع الفضل في ذلك إلى ما أشاعه رئيس المؤتمر من بهجة وألفة وأريحية ببشاشته وحسن استقباله للمؤتمرين وانفتاحه على مجمل التخصصات كعلم النفس الاجتماعي والعيادي والصحي والتحليل النفسي وعلم نفس الشغل وعلم الاجتماع. إذ أفسح للمؤتمرين ولجمهور الطلبة والمختصين وعموم المثقفين المجال للإدلاء بدلائهم أخذا وردا ومحاورة ومداورة بكثير من التلقائية والحرية والمرونة والتسامح. والحق أن نجاح مؤتمر ما ليس رهينا بجودة المحاضرات ومنزلة المؤتمرين فحسب وإنما هو رهين في المقام الأول بمبلغ ما يثيره الجمهور من قضايا وما يعرض له من نقد وما يحمله من إشكال جدير بالدرس والاعتبار. فلا غرو أن يتصدر المؤتمر ذروة الملتقيات النفسية التي شاركت فيها بالجامعة المغربية في السنوات العشر الأخيرة.
الدكتور أحمد المطيلي "نفساني عيادي ومعالج"

