Friday 12 December 2025
اقتصاد

المغرب وصناعة المستقبل السياحي: قطاع يتحول إلى قوة اقتصادية عالمية

المغرب وصناعة المستقبل السياحي: قطاع يتحول إلى قوة اقتصادية عالمية
شهد قطاع السياحة في المغرب خلال السنوات الأخيرة تحولاً عميقاً جعله أحد أهم المحركات الاستراتيجية للنمو الاقتصادي، وليس مجرد نشاط موسمي أو قطاع مكمل كما كان يُنظر إليه سابقاً. فالأرقام تكشف اليوم عن طفرة كمية ونوعية غير مسبوقة: فقد انتقل عدد السياح من حوالي 13 مليون زائر سنة 2019 إلى أكثر من 14.5 مليون سنة 2023، وقفز إلى مستوى قياسي بلغ 17.4 مليون سائح في 2024، ليصبح المغرب رسمياً الوجهة الأولى في إفريقيا، متقدماً على مصر (15.7 مليون سائح). هذه الدينامية رافقتها زيادة قوية في عائدات السفر التي بلغت 93 مليار درهم سنة 2022 قبل أن ترتفع إلى ما يفوق 104 مليارات درهم سنة 2024، بما يعادل حوالي 11 مليار دولار، وهو أعلى مستوى في تاريخ البلاد، لترتفع مساهمة القطاع إلى ما يقرب من 7% من الناتج الداخلي الإجمالي، مع أكثر من نصف مليون منصب شغل مباشر وغير مباشر.
 
هذا الأداء المتميز لم يكن نتيجة الطلب العالمي فقط، بل كان ثمرة رؤية استراتيجية تعي تماماً أن المنافسة لم تعد على عدد الفنادق فقط، بل على تنويع التجارب السياحية وخلق منتوج قادر على جذب شرائح مختلفة من السياح ذوي الإنفاق المرتفع. لذلك اختار المغرب الانتقال من نموذج “الشمس والبحر” إلى نموذج أكثر غنى وتنوعاً يشمل السياحة البحرية المتطورة، والسياحة الجبلية التي تعرف طفرة في الأطلس والريف، والسياحة الروحية والثقافية التي تعيد تموقع مدن مثل فاس ومراكش وتارودانت في قلب الخريطة الروحية العالمية. هذا التنويع ينسجم مع الاتجاهات الدولية حيث أصبحت التجربة السياحية، وليس فقط الإقامة، هي المحدد الرئيسي للسوق.
 
في الوقت نفسه، تشهد المدن المغربية تحولات كبيرة تجعلها أكثر تنافسية وجاذبية: طنجة، مراكش، أكادير، الرباط والدار البيضاء تعرف تحديثات حضرية واسعة، تأهيل للمدن العتيقة، مشاريع ثقافية ورياضية كبرى، وتحضيرات مستمرة لاستقبال تظاهرات عالمية مثل كأس العالم 2030. نسب الملء الفندقي التي تجاوزت 70% في مراكش وقرابة ذلك في أكادير سنة 2024 تعكس بوضوح قوة الطلب وجودة العرض. وإلى جانب المدن الكبرى، بدأت مدن صاعدة مثل الداخلة وتطوان وورش إصلاح المدينة العتيقة بفاس تستقطب فئات جديدة من السياح الباحثين عن تجارب مختلفة.
 
ولأن السياحة العالمية ترتبط اليوم بشكل مباشر بالنقل الجوي، فقد بدأ المغرب يطور بشكل واضح استراتيجية للربط الدولي عبر الخطوط الملكية المغربية وشركات أخرى. شبكة الربط المغربي تشمل حالياً أكثر من 80 وجهة، مع خطط رسمية لرفع الطاقة الاستيعابية للمطارات من 38 مليون مسافر اليوم إلى 80 مليون مسافر في أفق 2030. هذه الوثيرة القوية في التوسع الجوي تضع المغرب على مسار مشابه لتجارب رائدة مثل البرتغال التي ضاعفت عدد السياح بفضل سياسة جوية هجومية.
 
من جهة أخرى، برزت السياحة الداخلية كمكون أساسي في الدورة الاقتصادية، بعد أن ارتفعت حصتها من الليالي السياحية إلى 42% مباشرة بعد الجائحة، وهي اليوم تمثل حوالي 30% من إجمالي الطلب، مع دور متعاظم للجالية المغربية التي أنفقت 29.4 مليار درهم في 2024. هذا التحول جعل القطاع أكثر مرونة وأقل هشاشة أمام الصدمات الدولية، مقترباً من نماذج قوية مثل إسبانيا والبرتغال حيث يمثل السوق الداخلي أحد أعمدة القطاع.
 
أما السياحة القروية، فقد أصبحت اليوم أداة تنموية ذات أثر ملموس. المغرب يملك ثروة طبيعية وثقافية تؤهله ليصبح أحد أهم الوجهات في السياحة البيئية والجبلية في المنطقة، من الأطلس الكبير وسط المدن القروية إلى جبال الريف والواحات والقرى الساحلية. الاستثمار في الإيكولوجيات، بيوت الضيافة، المسارات البيئية، المنتوجات المجالية والصناعة التقليدية يجعل السياحة رافعة حقيقية للدخل المحلي ومحاربة الهشاشة، كما يساهم في الحد من الهجرة القروية وخلق اقتصاد دائري مستدام.
 
في السياق العالمي، الذي يسجل عودة عدد السياح الدوليين إلى حوالي 1.3–1.4 مليار سائح سنة 2024، تقترب السياحة المغربية من تموقع غير مسبوق في نادي الدول السياحية الكبرى. المغرب يحتل اليوم المرتبة 13 عالمياً وفق آخر تصنيف أممي، ويستعد للانتقال نحو سقف 26 مليون سائح في أفق 2030 بدعم من الاستثمارات التي تجاوزت 2.2 مليار دولار في العقد الأخير، ومن مشاريع كبرى قيد الإنجاز.
 
المغرب لا يبني قطاعاً سياحياً عادياً، بل يشكل صناعة سياحية كاملة قادرة على خلق القيمة المضافة، جلب العملة الصعبة، خلق آلاف الوظائف، وتحقيق العدالة المجالية عبر تثمين الموارد القروية والجبلية. التحدي المقبل ليس رفع الأرقام فقط، بل توجيه النمو نحو الجودة والاستدامة وجعل المغرب في موقع تنافسي عالمي متقدم، مع قدرة على استيعاب الطلب المتزايد دون الوقوع في مشاكل “السياحة المفرطة” التي تعاني منها وجهات متوسطية عديدة. السياحة المغربية اليوم ليست قطاعاً موسمياً… إنها ببساطة أحد مفاتيح المستقبل الاقتصادي للبلاد.