الاثنين 25 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

حنان قدامة: عذرا أيها اللقلاق

حنان قدامة: عذرا أيها اللقلاق حنان قدامة

دائما كانت الرموز حاضنة لروح الأمم؛ دائما كانت حاضرة في ذاكرة ووجدان الشعوب؛ تختزل ثقافتها وتراثها رموز مختلفة الأشكال ومتعددة الألوان؛ لكن أشهرها يظل مرتبطا بالطير "كالصقر الذي قدسته الحضارة المصرية والعقاب الذي طبع الراية القريشية" وبالحيوان الذي اتخذته بعض العلامات التجارية رمزا لها PUMA ارتضاه الروس "الدب" والفرنسيون "الديك" ممثلا لهم ولم يسلم من سحره الحزب الجمهوري "الفيل" والديمقراطي "الحمار" في الولايات  المتحدة الأمريكية.

إذا ما تركت أسد بلدي يزأر في غابات الأطلس وحلقت في عنان السماء مع الطير؛ أحد أهم مفردات الطبيعة المؤثرة في وجدان الناس لن أجد طائرا مناسبا ليكون رمزا مختزلا لروح المغاربة؛ لثقافتهم ولأصالتهم من طائر مترسخ في الفولكلور الشعبي العالمي: إنه الأسطورة المحلقة اللقلاق الذي تربطني به علاقة الجوار؛ عبرها لم يفته مني لحظ النظر؛ ولم يفتني منه جمع الفكَر.

منذ القدم ربط المغاربة مع اللقالق علاقة حميمية؛ ألبسوها في الأسطورة المغربية ثوب الأصل البشري؛ استشعروا مشابهتها لهم في كثير من الخصائص. فحرًموا قتلها بعد أن نالت منهم مودة خالصة وخالدة في ذاكرة الأمثال الشعبية المغربية.

أمس سقاها المغاربة "عصر الموحدين والمرينيين" شهد الرضاب؛ شهد التدليل؛ خصصوا لها أوقافا للإيواء ومشافي للعلاج؛ سجل رونق التدليل بيت الشاعر والأديب احمد بن شقرون:

إذا عطب اللقلاق يوما فإنه بمال

من الأوقاف يجبر من كسر

واليوم ترد لهم اللقالق حسن الجميل؛ تزين فضاءات أحفادهم خصوصا في مدينة القنيطرة حيث تتنفس أصباحها بهاء لقالقها البيضاء؛ من عل تبعث مع نسيم الصبا سلاما حارا لزائريها.

الملاحظ أن هناك  نقطا مشتركة بين اللقلاق وبين الشخصية المغربية الأصيلة  "والأصل غلاب" سواء من حيث الزي أو السلوك الاجتماعي...

مدلل المغاربة يتراءى لي مظهره الخارجي مختزلا الزي المغربي التقليدي؛ ديباج ريشه الأبيض أراه جلبابا يرتديه أصيل مغربي؛ ريشه الأسود تحت جناحيه أجده رداء النخوة سلهاما مغربيا مسدولا على قامة مغربية. رقصة الفرح التي يرقصها اللقلاق بزيه البهي في موسم التزاوج تجعلني أسيرة مشهد المرحوم المايسترو الحسين اشيبان وهو يؤدي بكل أناقة مع فرقته رقصة أحيدوس الشهيرة.

حين يرفرف رسول الربيع في الفضاء؛ يمدد رقبته الطويلة إلى الأمام؛ تمدد يرمز إلى تطلع الشخصية المغربية إلى المستقبل؛ إلى انفتاح جغرافيتها على الآخر حيث يصافح شمالها أوربا وجنوبها إفريقيا؛ واقع كرًس تفرد المغاربة وغنى ثقافتهم .

خلال طيرانها ترسم أسراب اللقالق تشكيلات شاعرية آسرة تهمس لي أجنحتها الواسعة بحديث الحماية التي تغدقها على صغارها؛ ويهمس لي التاريخ بفعل حماية أهل بلدي لكل من طرق بابهم راجيا العون والمدد.

يٌرسم أمام ناظري مشهد المولى إدريس الأكبر محتضَنا من طرف أرباب الخير بعد هروبه من العباسيين؛ أرى كثافة الدماء التي انزلق عليها جيش يوسف بن تاشفين حين هبً لنجدة أهل الأندلس من جبروت ملك قشتالة الفونس السادس.

أشاهد احتضان المغاربة للمسلمين واليهود الهاربين من لهيب الأندلس بعد سقوط غرناظة؛ واليوم ماتزال حمايتهم للواقفين على أعتابهم ترفرف بأجنحة غير متكسرة.

عندما يتحدث اللقلاق يُرجى الإصغاء  إليه رغم صوته المزعج؛ فهو يجيد لغة عشق الوطن؛ هو أكثر من يتقن أبجدية الوفاء له؛ يهاجر؛ يسافر لكنه يظل مسكونا بإخلاص الحب لمثواه الأول؛ يرجع إليه؛ فما أحلى الرجوع إلى أعشاش عريقة تسكن فيها أجيال وراء أجيال يباعد بينها الزمن ويوحدها هوى الوطن.

من سلوكيات اللقالق "الرافعات" التي تطبع الشخصية المغربية عموما الشموخ والإباء فهي لا ترضى بغير العلالي مسكنا؛ لا ترى أعشاشها فوق أديم الأرض وإنما فوق المآذن والكنائس والأبراج العالية حيث تقف شامخة مثلها طولا ؛يستعصي على الطيور الأخرى الاقتراب منها ويستعصي على البشر تدجينها؛ مثلها مثل المغرب الذي عاش استقلالا كبيرا عن الأمويين والعباسيين وكان عصي المنال على الدولة العثمانية؛ وحتى عندما تكالبت عليه في العصر الحديث القوى الاستعمارية ظل عصيا على الذوبان فيها احتضن أصالته وتدثر بثراته وما الطربوش الأحمر الذي جعله الأمريكيون المغاربة "الموريش" رمزا لهم منا ببعيد.

كم هو واسع الحيلة هدا اللقلاق؛ كم هو متزن  يستطيع السفر لمسافات بعيدة دون أن يضل؛ يمشي ببطء ولكن دون توقف صوب هدفه لا يعجزه شيء، عندما يقف في بعض الأحيان  يقف على رجل واحدة؛ وضعية جعلت المغاربة حسب بعض الآراء يسمونه "بلا رجل" قبل أن تؤثر متغيرات اللسان المغربي في الكلمة فتحذف لامها وتقف على جيمها فتغدو كما هي عليه الآن "بلارج."

رغم ضخامتها يغلب على اللقالق طبع الوداعة والمسالمة تسعى دائما إلى السلام مع الآخر؛ إلى التعايش مع الطير والبشر؛ لا تخافهم؛ ولا تلحق الأذى بمحاصيل الفلاحين، طبعها يشبه طباع أهل بلدي، فوق ثراه تألف أمازيغه وعربه... تحت سماه تعايش مسلموه مع يهوده فانبثقت من هدا العناق الحضاري شخصية مغربية متفردة. لو أتيح لي اختيار طائر ليكون رمزا لها ما ترددت لحظة في اختيار اللقلاق فهو يفيض بالكثير من خصائص المغاربة.. اتزان مزدان بذكاء.. شموخ محلًى بسلام... حب سفر مٌوَشًى بعشق الوطن  .

من أجل دلك أقدم اعتذاري.. عذرا أيها اللقلاق عدرا مدلل

الأجداد.. ما أنصفناك مثلهم.. ما قدرناك حق قدرك مثلهم.

أغلاك الأجداد وأرخصك الأحفاد.

عذرا أيها اللقلاق.. قد عقد البهاء لساني واستعصى علي بياني...