السبت 4 مايو 2024
مجتمع

محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود 3

محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود 3

من اللحظات الحاسمة في رحلة الحج لحظة دخول مكة المكرمة، حيث تتوارد الأفكار وتتدافع الخواطر، وتجيش العواطف، وتنهمل الدموع كالجمان، فرحا وسعادة بالوفود على البيت العتيق، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، واختاره قبلة للمسلمين أينما كانوا، وحاطه بمزيد تعظيم، تهوي إليه الأفئدة، وتجبى إليه ثمرات كل شيء...

نعم من المشاعر التي تكاد تحبس الأنفاس ما يشهده الحاج من طي المسافات، وزي الأرض له، وإن بوسائل حديثة ليجد نفسه خلال ساعات أو أيام في مواجهة قبلته التي طالما توجه إليها مصليا، تحول بينه وبينها الصحاري والقفار، والحواجز الجغرافية، والحدود المصطنعة، وغير ذلك من الأشياء والأمور، مواجهة تجعل القلب يكاد ينفطر بمعاينة وجهته وقبلته التي اختار الله تعالى لعباده المسلمين...

مكة المكرمة تمثل في الوجدان المسلم حصن التوحيد، وقلعة الصمود ضد الكفر والشرك، من لدن نبي الله إبراهيم  وابنه إسماعيل عليهما السلام، الذين رفعا لواء الاستسلام لله تعالى في أعظم تجلياته، فكانا أنموذجا راقيا للافتقار لله تعالى،  أقاما  بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم. ورفع إبراهيم عليه السلام الأذان مناديا الخليقة بحج البيت ليتولى الله تعالى تبليغه لمن كتب له الحج..

رسالة الإسلام ابتدأت مع أبينا ابراهيم عليه السلام الذي سمانا بالمسلمين، وسار على دربه من بعده كل الأنبياء والرسل إلى  نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جدد معالم الإيمان، فحرر مكة المكرمة من مظاهر الشرك، وطهرها من الكفر، بعد مجاهدة ومكابدة، ودعوة للحق والخير، وقد لبث سنين في ذلك توجت بفتح عظيم، لم يزده إلا تواضعا وخضوعا لله تعالى، وإقرارا بجميل توفيقه، وجزيل عطائه حين فتح مكة الذي كان نصرا مؤزرا حيث دخل الناس في دين الله أفواجا.. وقد حرص صلى الله عليه وسلم على جعل هذا الفتح موجبا للتواضع لله تعالى فدخل مكة مطأطأ رأسه حتى أوشك أن يلمس رحل ناقته، ولم يجعله فرصة للزهو وإذلال خصومه الذين لم يتركوا سبيلا لإجهاض دعوته في مهدها...

وتقوى لحظة الشوق تلك كلما كان الوافد على البيت العتيق ذا خلفية معرفية بتاريخ البيت، وتاريخ مكة، ومراحل دعوة الرسول صلى الله على وسلم، ويرتقي حاله حينما يستمع أو يتلو كتاب الله تعالى في مهبطه، ويحاول تصور زمن نزول الآيات والوقائع التي ارتبطت بالنزول، وربما الأشخاص والمواضع، والأجواء التي رافقت ذلك، والمتميزة بمرحلة من الصراع الأزلي بين الحق والباطل، وبين مظاهر الهدى، وصور الضلال...

إعلان نداء الحق عند كل صلاة في مكة يثير هو الآخر شجونا في النفس ويعود بالسامع القهقرى إلى زمن لم يكن فيه ممكنا إظهار التوحيد ولا الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لغلبة عقائد الشرك. واستبداد الملإ من قريش.. وسيادة منظومة من الاستعباد: القوي فيها يقهر الضعيف... أجل سماعك لشهادة أن لا إله إلا الله في مكة له وقع عظيم على النفس لا سيما مع رجع صداها المرتد من جبال مكة سابقا واليوم من عمائرها التي أحاطت بالمسجد الحرام..