الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

أحمد الشهبوني: أوراق من ذاكرة أسفاري

أحمد الشهبوني: أوراق من ذاكرة أسفاري أحمد الشهبوني

السفر متعة وتسلية، استفادة من مشاهدات حية، تجربة حافلة بالإثارة والاكتشاف، سجل دقيق وعميق من الانطباعات عن حياة الشعوب ومظاهر سلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم. في الرحلة يسمح للإنسان بأن يشيد نظرا شموليا حول العالم؛ كي لا يبقى سجين المحلي والوطني ورهين  تصورات إيديولوجية بعيدة عن الحقيقة .

 

بالسفر الذي يتيح لك مواجهة أوضاع ومواقف وقصص،  تكتشف الآخر، حضارات مختلفة وديانات متنوعة. وبذلك ترسخ الرحلة العوامل التي بنيت عليها وحدة البشر، وتفجر في الوجدان استشعار المصالح ألمشتركة التي توثق عرى وحدة الإنسانية على الأرض. وهذا الاكتشاف يجعل الإنسان أكثر اتزانا ويجنبه أحكام القيمة المسبقة، حيث يلامس عبر المعاينة أن ما يجمع البشرية كثير، فهي وإن اختلفت عقائدها ولغاتها وثقافاتها فالجميع يشرئب للسلم ويسعد بالرقص والغناء ويرتاح في حضن الأسرة والجماعة.

 

في تاريخنا نجد الرحالة ابن بطوطة في القرن 14 الذي تلقبه كتب كامبردج في أطاليسها بأمير الرحالة المسلمين. وهناك أيضا قصة ابن طفيل عن حي بن يقظان، وهناك رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ورحلته الحوارية بين الشعراء.. وهناك الملاحم القديمة في الرحلة مثل الأوديسا الإغريقية...

 

ماذا استفاد أحمد من أسفاره؟

أحمد الشغوف بالرحلة منذ الصغر، لا يتذكر إلا القليل عن أسفاره الأولى مع العائلة في العطل الصيفية إلى مدينتي الجديدة والصويرة. اللهم المتعة واللعب في الشاطئ مع الأقران، بينما مشاركته في المخيمات الصيفية بالجديدة أغنت حسه الاجتماعي التواصلي، فأحب أكثر لغته العربية، عبر الأناشيد التي حفظها وتذوقها وغناها، ومعها تعلم الانضباط واحترام الوقت والعيش الجماعي مع أقرانه، علاوة على مكتسب تربوي رفيع، الاحساس بالاستقلالية عن الوالدين ووضع الاقدام الأولى على درب الرجولة بمعناها الرمزي من جرأة واقدام وتدبر.. سافر أحمد وهو تلميذ في الثانوي التأهيلي مع مجموعة من "الرفاق" إلى أغبالو بالأطلس الكبير، كانت رحلة ممتعة تذكرك بأجواء سبعينيات القرن الماضي وما كانت تحبل به من مخلفات الثورات في فرنسا (ماي 1968) والفيتنام والصين وفلسطين.. فإلى جانب رياضة المشي في المسالك الجبلية "الغيفارية"!، الغناء الجماعي "الملتزم" في ضفاف الوادي من تنشيط الفنانين الصديقين سعيد المغربي والكاتي. كنا نستحضر بشكل جماعي أغاني الثنائي الشيخ إمام وفؤاد نجم تعبيرا عن الترابط الوجداني مع صور وأحاسيس حماس الثورة على كل شيء.. وفي المساء؛ نتابع مسار "الالتزام"، فكنا نقرأ بعض كتب لينين وماو تسي تونغ داخل حلقات لنقاش قضايا الوطن والعالم. وهنا ستهرب بنا الرحلة من وظيفتها القديمة في أيام الصبا، إلى وسيلة لتقوية الروابط الشبابية مع رياح العصر الرفضوية..

رغم ذلك، سيتعلم أحمد كيف ينفق رصيده المالي بتوازن، وبتوزيع مضبوط على أيام العطلة. بلا إسراف ولا تقشف.

 

الرحلة إلى  فرنسا بعد الحصول على شهادة الباكالوريا صيف 1975...

أجل، سافر أحمد إلى تولوز لمتابعة دراسته الجامعية، كانت "صدمة" أحمد قوية فهو الذي ترك رفاقه التلاميذ بثانوية أبي العباس السبتي وباقي ثانويات مراكش في معاركهم "البروليتارية" المعارضة للنظام القائم.

في مراكش، كان أحمد يقوم بجانب رفاقه في منظمة 23 مارس والنقابة الوطنية للتلاميذ (تنظيمان يساريان سريان) بتوزيع المناشير المناهضة لنظام الحكم في عمق الليل من "أجل توعية الجماهير الشعبية". وكانت عملية التوزيع في الأحياء الشعبية تستغرق مدة قصيرة لا تتجاوز نصف ساعة.. وذلك تجنبا لأي اعتقال. أما اللقاءات التنسيقية قبل التوزيع تتم في واد إسيل قرب باب الخميس ردءا للمخاطر حيث ان تكلفة الاعتقال ثقيلة جدا قد تصل إلى خمسة عشرة سنة سجنا!!!

في فرنسا سينبهر أحمد ويكتشف معنى الديمقراطية، حيث المنابر الإعلامية مفتوحة للحكومة والمعارضة بشكل متوازن، وحرية التعبير مكفولة للجميع. وكمثال، مازال أحمد يتذكر أحد البرامج الحوارية الذي جمع بين آلان برفيت وزير العدل آنذاك وجورج مارشي زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي. وخلال جلسة الحوار خاطب مارشي ألان برفيت: لقد سبق وصرحت في إحدى الصحف بكذا وكذا. نفى  المحاور الآخر كل ما  نسبه له جورج مارشي. بعدها أخرج جورج صفحة الجريدة التي نشرت تصريح الوزير وتوجه للمشاهدين بالقول "إنه لمأساة لفرنسا أن يكون وزير عدلها كذاب"

"C'est malheureux pour la France d'avoir un ministre de justice menteur".

في ظل هذا الجو الديمقراطي؛ انخرط أحمد في النضال في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ومنظمة 23 مارس، علاوة علي مشاركته في أنشطة الطلاب الفرنسيين والأجانب. كانت جامعة تولوز مدرسة نضالية تعرف فيها أحمد عن كتب عن المشاكل الكبرى للعالم ودافع عن كل القضايا العادلة، حيث كرس جل وقته للعمل النقابي والسياسي الذي كان في بعض الاحيان على حساب دراسته. وهذا خطأ جسيم تداركه أحمد وحافظ على متابعة دراسته إلى ان حاز على دكتورة السلك الثالث وعاد لوطنه ليشتغل في التدريس بالجامعة المغربية.

 

في تولوز، عاش أحمد ازدواجية في تكوينه وتنمية معارفه، ففي الوقت الذي تابع كل أطوار دراسته في تخصص علمي "جاف" (السلك الأول والثاني في كلية العلوم والدكتوراه هيأها في مدرسة المهندسين، كان شغوفا بتقنيات التواصل والعلوم السياسية و الاقتصاد إلى درجة أنه كان يتابع بعض دروس الاقتصاد السياسي بكلية الحقوق في تولوز. أحمد بمشاركته في جل الأنشطة الطلابية والسياسية عموما؛ سواء في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أو الطلاب العرب أو على الصعيد الدولي، تعلم كيف تصاغ البيانات؛ وكيف تحدد الأهداف الأساسية والثانوية بدقة، وقد ساعده المناخ الثقافي والسياسي الذي كان سائدا في فرنسا آنذاك، والمتميز بمستوى عال من النقاش حول أي مشروع مقترح للمجتمع الفرنسي.

 

ومن حسن الصدف التاريخية وجود احمد بفرنسا سنة 1981. كان أقطاب اليمين بكل تلاوينه واليسار بقيادة الحزبين الشيوعي والاشتراكي على موعد سنة 1981 مع حلقة مفصلية في التاريخ الفرنسي الحديث، حيث لأول مرة يفوز مرشح يساري بمنصب رئاسة الجمهورية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة على يد الراحل شارل دوكول. كان الصراع على أشده حول القضية الاجتماعية بين فرانسوا ميتران مرشح اليسار وغريمه مرشح اليمين جيسكار دييستان. ولتجسيد برنامجه الاجتماعي القاضي بإعادة توزيع الخيرات والرفع من المستوى المعيشي للفئات الضعيفة رفع ميتران الشعار التالي: "لما نجد طفل فرنسي من اثنين، لا يستفيد من العطلة الصيفية. أقول أنا فرانسوا ميتران، هذا ليس بعدل".

 

في تولوز المدينة الوردية تأثر أحمد بجمالية العمران، حيث إن وسط المدينة يحكمه قانون صارم للتعمير. من أجل ضمان جمالية المنظر في أزقة المدينة يتعين على جميع المواطنين عند بناء أو إصلاح محلاتهم السكنية أو التجارية الحفاظ على الشكل الخارجي باستعمال نفس اللون والحجارة.

 

فرنسا الأخرى؛ في إطار النشاط السياسي لأحمد داخل منظمة 23 مارس، استقبل في تولوز ذات مرة أحد قادة اليسار المغربي (م.م) الذي جاء في مهمة تنظيمية، وبعد انتهاء المهمة اقترح عليه أحمد أن يذهبا معا  لتناول وجبة الغذاء في أحد مطاعم تولوز. دخل أحمد وضيفه إلى المطعم متأخرين. مباشرة بعد جلوسهما في إحدى الطاولات تقدم النادل منهما واعتذر بمبرر التوقف عن تقديم الغذاء للزبناء. بينما أحمد و ضيفه جالسان يفكران في حل؛ أيقصدان مطعما آخر أو يذهبان للمنزل؟ دخل بعض الشبان الفرنسيين إلى المطعم وجلسوا وطلبوا من النادل أن يحضر لهم أكلا. فاستجاب هذا الأخير وبدأ يسجل طلباتهم. حينها ثارت ثائرة أحمد واشتعل غاضبا في وجه النادل؛ أوقفه وصرخ في وجهه، هذا تصرف عنصري يعاقب عليه القانون، وطالب بإحضار الأمن حالا.

 

بعد الضجة التي أحدثها أحمد إثر هذا التصرف العنصري للنادل، أمسك الضيف أحمد وخاطبه "أنا لاجئ سياسي وليس من مصلحتي أن أواجه البوليس مهما كان" فأرجوك أن ننسحب. مباشرة، انسحب أحمد وضيفه؛ ومنذ هذا الحدث قرر أحمد أن لا يعيش في فرنسا.

 

هكذا أحمد،، وهكذا دروس الرحلات... من عاشق لفرنسا وحرياتها واحترامها للحقوق إلى القرار بمغادرتها بعد احتراقه بلهيب العنصرية..

 

وليبدأ رحلة جديدة...