الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الرياضي: كورونا.. من نظرية الفوضى إلى اضطرابات الصدمة 

أحمد الرياضي: كورونا.. من نظرية الفوضى إلى اضطرابات الصدمة  أحمد الرياضي

في البدء وجب التنبيه:

نظرية الفوضى لا تعني اللا عقلانية أو عدم الخضوع لأي قانون. إنها تعني وجود نظام صارم جدا لكننا لا نستطيع رؤيته. (مقتبس).

 

إن القارئ لكتاب نظرية الفوضى لجيمس غليك(1) يقف على الكثير من العناصر المهمة، التي تجعله يطرح بعضا من الأسئلة الحارقة بشأن محتويات المكتوب، وبغض النظر عن ذلك، فإن هذه النظرية تبدأ من الحدود التي يعجز العلم عن تفسيرها، مما يجعله دوما في صراع مع المجهول، بشأن تفسير بعض الأحداث/ الظواهر/ الاضطرابات التي تنتجها  الطبيعة، وهي في الكثير من الأحيان مفاجئة، الشيء الذي يؤدي إلى ظهور بعض  الاضطرابات الصحية، عضوية كانت أم نفسية، لدى الإنسان.

 

من هذا المنطلق، زارني هذا الهم المعرفي رغبة في البحث عن جغرافيات مفتوحة على السؤال، كباحث وأستاذ في علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وأيضا كأخصائي نفساني ممارس في علم نفس الأورام، تمرس على مواجهة صدمات المرض وسيكولوجية الألم لدى مرضى الأورام السرطانية، خلال الممارسة النفسية بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا بالرباط سابقا.

ثم أولا وأخيرا كفرد/ إنسان يسكنه حب الوطن... يرى أن الواجب يفرض عليه رسم بعض واجهات الأمل، لدى من يعيش صدمة التحول المفاجئ في الحياة اليومية... نتيجة فيروس يخلق الفوضى، تلك التي تولد اضطرابات الصدمة...

 

بناء على هذا الهم المعرفي، كنت أبحث في كل شيء.. إلا أن الانقلاب المفاجئ خندق كل شيء... حيث منذ نزل الخبر/ الصاعقة... العابر للقارات والحدود... وأنا أتابع كل شيء قادم من ووهان، إذ تسرب الخبر بدون جواز ولا تأشيرة مرض، بعده  تناسلت الحكايات وأصيبت الهواتف المهملة بالحمى والزكام، نتيجة تلك التعبيرات التي تهزأ من فيروس لا يرى.. وكأن شيئا لن يحدث.. لأن الصين في أقصى الشرق. وهنا بدأت تظهر إحدى تجليات الإنكار كميكانيزم دفاعي  .

 ...هناك في الغرب.. كالنار في الهشيم استيقظت العجوز... على إيقاع الموت الجماعي القادم من الصين... حينها  سألت ذاتي عن الذين يعيشون خارج الوطن؟ وماذا ينتظرنا نحن داخل الوطن..؟ ترى ما الذي حصل؟

 

وأنا أتابع عن كثب تلك العدوى، والجنازات التي تخلت مرغمة عن الطقوس... لا أدري ما الذي جعلني أستحضر بعضا مما كنت قرأت منذ سنوات، يتعلق الأمر بنظرية الفوضى لجيمس غليك التي تتمحور حول سؤال مركزي: هل يمكن لخفقة من جناح فراشة أن تحدِث إعصارا على الجانب الآخر من الأرض؟

تلك النظرية التي تحاول دراسة العواقب الوخيمة والتأثيرات السلبية التي يمكن أن تحدثها التغيرات السريعة (2) والبسيطة في الحاضر على مستقبل الإنسان والطبيعة. بمعنى أنها توجهنا نحو فهم جديد وعميق للحياة والطبيعية.... إنها تبين مظاهر وتجليات الفوضى في المعيش اليومي، بدء بحالة تسونامي... ظاهرة الاحتباس الحراري.. فيروس كورونا.

 

في ظل هذه الفوضى، فإن هذه النظرية ترى أن الفوضى التي نراها -على مستوى السلوك الإنساني- إنما تخضع لنسق دقيق لا مجال فيه للخطأ، وتدلل على ذلك بسلوك النحل.

في ظل هذا الارتباك والفوضى تظهر منعرجات/ اضطرابات على مستوى السلوك الإنساني، مما يستلزم الأمر على الباحثين في علم النفس إعادة النظر في مفهوم التنبؤ، ما دمنا لا نتوفر على معطيات ميدانية تسمح لنا -على الأقل- بمعرفة طريقة تفكير الآخر هنا والان (فيروس كورونا والالتزام بحالة الطوارئ الصحية). وهذا ما يؤكده بعض الفيزيائيين من خلال بعض النظريات: من بينها نظرية الفوضى، التي بينت أن مصير العالم غير محتوم ولا يمكن توقعه، وأن هناك أشياء لا يمكن البتة التنبؤ بها.

 

إن هذا الارتباط بين نظرية الفوضى واضطرابات الصدمة، سنحاول أن نسعى من خلاله توضيح أهمية دراسة السلوك، بناء على اليات تساعد على البحث في الأسباب من أجل التشخيص فالعلاج، في محاولة للذهاب بعيدا من أجل الوصول إلى خرائط ذهنية، تمكننا من وشم الدرس الأول من الفوضى في الذاكرة. حتى لا تكون هناك اثار سلبية على نفسية الفرد، مما يولد مضاعفات صحية واضطرابات نفسية ليس الآن، بل فيما يستقبل من الأيام  قد تغير مسار الإنسان.

 

إن هذا الوضع الذي يعيشه العالم اليوم  ، نجد تجسيدا له في إحدى كتب ديفيد كوامين التي تحمل عنون الفيض2012 (3)، حيث يرصد الكاتب والروائي الأمريكي تاريخ العلاقة المتشابكة بين الإنسان والحيوان، هذه العلاقة التي يستغلها عنصر آخر في المعادلة يتمظهر حسب العلماء في صورة مجموعات متنوعة من الفيروسات والبكتيريا... تنتقل من خلال التغذية نحو جسد إنساني لا مناعة له، بعد أن تبلغ ذروتها تظهر على صورة فيروس عالمي، وهو ما يمكن أن يتجسد -بالكثير من الحذر العلمي- في فيروس كورونا الذي ولد صدمة نفسية لدى الإنسان في الكثير من المجتمعات تنتج عنها يوميا  العديد من الاضطرابات النفسية .

 

من جانب آخر، فإن عنف التمثلات الاجتماعية حول فيروس كورونا، تولد حالات التوتر والارتباك والقلق والخوف والإحساس بتوهم المرض.. وتعمق مأساة آخرين... حالات تسيطر على تفكير الفرد في الحياة اليومية، مما يجعله يشعر بالكثير من المعاناة النفسية. قد تتحول إلى أمراض نفسية أكثر عنفا تؤذي الذات والاخر.

 

إن مثل هذه الوضعيات النفسية المؤلمة تحتاج إلى المساندة النفسية، بناء على آليات وتقنيات علمية على مستوى العلاج النفسي، من طرف الأخصائيين النفسانيين المؤهلين حتى لا نعمق هذا الانجراح النفسي.

فقط، إن مثل هذه الحالات على المستوى النفسي -حتى لا نضع كل الأسر والعائلات في خريطة الاضطراب الناتج عن صدمة فيروس كورونا- تختلف من فرد لآخر لاعتبارات متعددة، تشكل البنية النفسية إحداها، حيث يستطيع الفرد من خلالها توظيف بعض ميكانيزمات وآليات التعامل مع مثل الوضعيات الحرجة. عكس ذلك يمكن الحديث عن العوامل المهنية لظهور مثل هذه الاضطرابات النفسية الناتجة عن الصدمة النفسية لفيروس كورونا.

على اعتبار أن الصدمة النفسية هي كل حادث يهاجم الإنسان أو المحيطين به، ويخترق الجهاز الدفاعي لديه، مع إمكانية تمزيق حياة الفرد بشدة. وقد ينتج عن هذا الحادث تغيرات في الشخصية أو مرض عضوي، إذا لم يتم التحكم فيه والتعامل معه بسرعة وفاعلية. حيث تؤدي هذه الصدمة إلى نشأة الخوف العميق والعجز أو الرعب (4).

وعليه، فإن الحديث عن الصدمة النفسية فيه الكثير من الحذر العلمي، ما دمنا لا نملك اليات من أجل التشخيص الذي ينبني على أسس تحترم خطوات العلاج النفسي، ولو أن هناك العديد من المبادرات، هنا والآن، تعمل على تقديم نوع من الدعم النفسي للأفراد الذين لديهم بعض الصعوبات النفسية، حتى لا أقول الاضطرابات النفسية، لأن التشخيص عن بعد فيه الكثير من المزالق.

 

ومع ذلك، يمكن البحث عن استراتيجيات وآليات للتوافق النفسي والتكيف الاجتماعي مع مثل هذه الصدمات النفسية  التي تشمل الكثير من الأفراد والأسر، نتيجة هذه الفوضى التي تندلع من التمثلات الاجتماعية العنيفة والأحكام المسبقة حول مالات الإنسان والطبيعة، وذلك من خلال وضع وصياغة برنامج دقيق يسهر على التدخلات النفسية، تشمل كل الذين يعيشون حالات نفسية جراء نظرية الفوضى التي تتحكم في السياق الوبائي، وذلك عن طريق  تقنيات المساندة النفسية خلال هذه الأزمة للتخفيف من الآثار السلبية، حتى نقلل من  منابع إدراك الأحداث السيئة التي يحصل عليها الأفراد، من خلال متابعة الأخبار على مستوى القنوات العالمية، وأيضا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ...

 

إن الدعم والمساندة النفسية يقلل من إدراك هذه الخبرات السيئة والمؤلمة، ويساهم في التواصل الاجتماعي الفعال، وذلك عن طريق التأكيد على الجوانب الإبداعية للفعل والتصور الإنساني (5) كما تؤكد على ذلك الفينومنولوجيا.... مما يؤدي إلى خلق نوع من التوازن النفسي: ما بين الرغبات الفردية والحاجات الجماعية، وبالتالي تختفي تجليات العنف والصراع والخوف وتوهم المرض، من أجل معانقة الحياة من جديد بكثير من الأمل...

 

- أحمد الرياضي، أستاذ علم النفس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، الدار البيضاء، أخصائي نفساني

 

بالاعتماد على بعض المراجع  :

 

1- نظرية الفوضى : علم اللامتوقع، جايمس غليك، دارالساقي بيروت لبنان ، 2008 .

2- الفيض، أمراض الحيوانات المعدية وجائحة الوباء الثانية بين البشر، الجزء الأول ،تأليف ديفيد كوامين، ترجمة د مصطفى إبراهيم فهمي ، سلسلة عالم المعرفة الكويت ، 2014.

العنوان الأصلي:

Spillover , Animal infections and The Next Human Pandemic, by David Quammen , W.W.Norton & Company, USA 2012.

3 - Mitchell J.T. & Everly G. S. (1995). Critical Incident Stress Debriefing: The Basic Course Workbook. Ellicott City: Chevron Publishing Corp.p .6.

4- النظريات المعاصرة في علم الاجتماع تمدد افاق النظرية الكلاسيكية رث والاس 2011 ص 317.

5- المرجع السابق، نفس الصفحة.