الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

عزيز لعويسي : "الشماعية".. مشاهد عابرة

عزيز لعويسي : "الشماعية".. مشاهد عابرة عزيز لعويسي
كان العبور عابرا عبور سحاب غشت، وكان المقام أسرع من براق "طنجة - الدار البيضاء"، وبقدر ما كانت سرعة العبور ونوستالجيا المرور، بالقدر ما كانت القدرة على اقتناص مشاهد عابرة لمنطقة جغرافية،لا زلنا مترددين بين وضعها في زمرة "القرية الكبرى" أو موقعتها في نطاق "المدن الصغرى"، عجز يشكل مرآة عاكسة لبلدة "الشماعية"، الفتاة المدللة لبلاد "احمر" ومعشوقة الكثير من "الحمريين" القادمين من الجماعات والدواوير المجاورة، الذين يترددون عليها بين كل لحظة وحين، كما يتردد المريدون على شيخ الزاوية، ليس بحثا عن "البركة"، ولكن لقضاء الأغراض والمآرب والمصالح الشخصية والتمدرس، في مجال جغرافي لا صوت يعلو فيه على صوت "البساطة" و"الرتابة" و"التهميش" و"الإقصاء"، وهي مشاهد تزداد تعقيدا في الصيف مع اشتداد الحرارة وتمرد الغبار الأحمر، وفي الشتاء مع البرد القا رس وموجات الصقيع القادمة بسرعة البراق من مرتفعات الأطلس الكبير..
بين المرور والعبور، تشكلت في ذاكرتنا مشاهد عابرة لمدينة/قرية أو قرية/مدينة، تبدو كقاموس تسيطر عليه كلمات ومصطلحات "البؤس" و"الإهمال" و"النسيان"، دون تقدير لجغرافيتها التي جعلتها تشكل جسر عبور بين قطبي جهة "مراكش آسفي" (مراكش، آسفي)، ولا لإرثها التاريخي الذي لم يسلم بدوره من عدوى الإقصاء، مشاهد نوجه بوصلتها نحو ما عايناه من بؤس ومن جريمة نكراء مورست عبر سنوات في حق "مدرسة الأمراء" التي تختزل ذاكرة منطقة "احمر" بمجملها، والتي لم تتبق منها سوى ركامات متناثرة وبقايا أسوار تعيش مرحلة احتضار، وعلى بعد أمتار من الشارع الرئيسي (كيليز الشماعية) تتربع "كنيسة" تعود إلى الحقبة الاستعمارية، حالها يبدو أفضل من المدرسة، لكنها تعيش في رتابة كاسحة، بشكل يجعلها تبدو كالضيف غير المرغوب فيه..
مسافة قصيرة عن "الشماعية"، تحضر "بحيرة زيما" التي ارتبط اسمها بإنتاج الملح، وهي تعد تراثا طبيعيا وتاريخيا، لم تسلم بدورها من مخالب التقصير والإهمال، وهي معالم تاريخية وطبيعية –على قلتها- كان من المفروض تأهيلها والارتقاء بها، وحسن الترويج لها على المستويين الجهوي والوطني، بشكل يدعم البعد السياحي بالمنطقة، وهذا من شأنه زحزحة قارات التنمية الراكدة، وكسب رهان الإقلاع التنموي المحلي، الذي لن يكون إلا في خدمة الساكنة الشماعية/الحمرية.
وتردي أوضاع هذه المعالم التي تشكل هوية "المدينة"، تتحمل مسؤوليته السلطات المحلية والمجالس المنتخبة المتعاقبة، كما تتحمل مسؤوليته الساكنة المحلية وجمعيات المجتمع المدني، التي يفترض أن تتحرك وتترافع أمام الجهات المختصة، من أجل صون هذه المعالم وغيرها وإعادة الاعتبار لها بالترميم، وتحويلها كفضاءات عمومية (دار ثقافة، متحف ...) يستفيد منها السكان وخاصة الأطفال والشباب..
المشهد الثالث، الذي تم رصده خلال مقامنا العابر بالشماعية، هو غياب "الأمن"، بشكل يترك فراغات أمنية، تسمح بتنامي كل أشكال الانحراف والجريمة خاصة المخدرات، التي امتدت إلى محيط المؤسسات التعليمية، إلى درجة أنه نادرا ما كنا نعاين دوريات الدرك الملكي راجلة كانت أو راكبة، تقوم بجولات مراقبة في القطاع، وهذا له ما يفسره، بالنظر إلى ضعف الحصيص، وفي هذا الصدد، وفي ظل ارتفاع ساكنة المدينة وامتدادها المجالي غير المتحكم فيــه، أصبحت الحاجة ماسة لخلق مفوضية للأمن الوطني، وهذا من شأنه التحكم الأمثل والناجع في القطاع، والقضاء على مظاهر الفوضى والعشوائية، وفرض النظام، واستئصال شوكة المجرمين والمنحرمين، وإعادة الحياة لمدينة ضاقت ذرعا من التهميش وأخواته ..
المشهد الرابع والأخير، لن يكون إلا تربويا، ذلك أن قساوة البيئة وصعوبات العيش وانسداد الأفق، له تداعيات مباشرة على سلوكات وتصرفات "التلاميذ"، الذين يتقاسمون (مع وجود الاستثناء) مفردات "التهور" و"العبث " و"العنف" و"عدم الانضباط"، في ظل الفراغ الأمني وانتشار المخدرات في محيط المؤسسات التعليمية، وهو واقع، يتحمل وزره الأساتذة في الحجرات الدراسية سواء في إطار الممارسات الصفية، أو بمناسبة إجراءات "المراقبة"/ الحراسة، الخاصة بامتحانات البكالوريا وبالامتحانات الخاصة بالسنة الثالثة إعدادي، إلى درجة أن كل الأساتذة، كانوا يتوجسون ويتخوفون من "إجراء المراقبة" في ظل تواجد عينات من التلاميذ المتهورين الفاشلين، الذين لا يجدون حرجا في ممارسة الغش المدرسي، ولو تطلب ذلك "تخراج العينين" و"التهديد" و"العنف".
ومن باب الإنصاف، مرورنا العابر، مكننا من معاينة نماذج من التلاميذ، توفرت فيهم شروط المواظبة والجدية والاحترام والتقدير، لكن ما أثار الانتباه، هو التلاميذ المنحدرين من العالم القروي، وهم تلاميذ بسطاء وبسطاء جدا، تظهر عليهم علامات الفقر والقسوة والتهميش، المحظوظ منهم يظفر بالسكن في داخلية ثانوية القدس أو في دار الطالب(ة)، ومن لم يفلح في ذلك، غالبا ما يكتري بيتا رفقة الأقران، أو يدبر الأزمة، بالإقامة مع بعض الأقارب والمعارف بالشماعية، ومن يقطن في الروافد القريبة، يتحمل يوميا مشقة الدراسة مشيا على الأقدام.
وفي هذا المستوى، نستحضر حالتين، تمت معاينتهما بملحقة "الزبير بن العوام" في إطار "مهمة التكليف"، الأولى لتلميذ قادم من العالم القروي، يعاني البؤس في أقسى تجلياته، وتزداد الصورة تعقيدا في ظل مستواه المتعثر للغاية، كان يقطن (في سن 13 سنة)على مقربة من الإعدادية بسوق للمتلاشيات لدى أحد معارفه، بعدما تعذر عليه إيجاد سكن يأويه، وقد انقطع دون إتمام الموسم الدراسي للتفرغ لرعي الأغنام كما أكد وقتها زملاؤه، والحالة الثانية، هي لتلميذة، مستواها مستحسن، كانت تأتي من أحد الدواوير إلى المؤسسة رفقة والدتها مثن عربة مجرورة بدابة، بعدما تعذر عليها إيجاد سكن بالشماعية، وقد غادرت بدورها الدراسة دون أن تكمل السنة الدراسية، في ظل الفقر وصعوبات العيش، رغم أنها حصلت على معدل مستحسن في الأسدس الأول.
وهي نماذج من صور، تعكس بجلاء، أن التعليم ليس فقط مناهج وبرامج وبنيات استقبال وحياة مدرسية، هو محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء وفك العزلة عن العالم القروي والاهتمام بالداخليات ودور الطالب(ة) ودور الشباب والرياضة خاصة بالمجالات القروية، لأن من يعاني ويشكو ويتألم، سيتنازل يوما، بشكل قسري عن "الكراسة" و"القلم" في واقع قاس لا يرحم ...
عسى أن تتم الالتفاتة للتلاميذ المنحدرين من الروافد القروية المحادية للشماعية، بتجويد وأنسنة بنيات الاستقبال (داخلية، دار الطالب(ة) ..)وتمكينهم بما يلزم من دعم تربوي واجتماعي ونفسي،استحضارا لوضعياتهم المادية والاجتماعية، بشكل يضمن العدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص، ويقوي أحاسيس الإقبال على الأمل والحياة، ويقطع مع كل الأسباب التي من شأنها أن تدفع نحو منزلقات اليأس وانسداد الأفق، كما حدث مع التلميذ (يوسف. ق) الذي وضع حدا لحياته - قبل أسابيع- بالانتحار، هروبا من واقع الانكسار وقساوة الانتظار.. نجدد الرحمة عليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون" ...
ونختم هذا السفر "النوستالجي"، بتوجيه نداء إلى السلطات المحلية بالشماعية، باتخاذ التدابير الاستعجالية الممكنة من أجل إنقاذ ما تبقى من "مدرسة الأمراء" وإعادة تأهيلها، وإعادة الاعتبار للكنيسة بتسخيرها كمتحف أو قاعة مطالعة، وفي إنقاذ المعلمتين، إنقاذ للذاكرة التاريخية لمنطقة "احمر" قبل الانهيار والزوال، وإيلاء "بحيرة زيما" العناية اللازمة، وكلها معالم تاريخية وطبيعية، يمكن التعويل عليها للارتقاء بمستوى التنمية المحلية، أما "الأمن"، فنرى أن الحاجة أصبحت ملحة لخلق "مفوضية للشرطة" في ظل الامتداد المجالي والتزايد السكاني، لأن الشرطة، يأتي معها "النظام" و"الانضباط" و"الإشعاع" و"الجاذبية"، دون إغفال إيلاء الشأن التربوي، ما يستحقه من عناية واهتمام، للقطع مع كل الظواهر المشينة والممارسات اللامدنية التي لازالت حاضرة في المؤسسات التعليمية، مع التذكير، أن "المجتمع المدني الشماعي"، لابد له، أن يتحمل مسؤولياته المواطنة في النضال والترافع من أجل التأثير الإيجابي في الشأن المحلي، على أمل أن تشرق شمس "شماعية" جديدة، كما يحلم بها "الحمريون"، يصان فيها "التاريخ" و "الجغرافيا"، وبينهما يكـرم "الإنســان الحمري" الذي ضاق ذرعا من "الانكسار" و "الانتظار"...