الأربعاء 24 إبريل 2024
مجتمع

أغاني "المرددات النسائية" التراثية تتعرض للقصف الماجن بقنابل الابتذال، وصواريخ التشويه والتحريف (3)

أغاني "المرددات النسائية" التراثية تتعرض للقصف الماجن بقنابل الابتذال، وصواريخ التشويه والتحريف (3) من "المرددات النسائية" التراثية

في الوقت التي تغنت نساء البادية "اللعابات" بمرددات ذات طابع وطني،  واجتماعي، وديني، ودنيوي، وأدت نصوصها الشعرية باحترام وحنكة عالية، خلال مناسبات احتفالية أمام جميع أفراد الأسرة والعائلة، وانتقلن بمخيالهن وتمثلاتهن إلى وصف الطبيعة وتقلباتها حسب الفصول، ومدحن شجاعة الفرسان من أبناء الدوار، وتناولن حرص الشجعان على سلامة الأرض و العرض داخل القبيلة... ولم يترددن كذلذك في تمرير رسائل ترسيخ قيم حب الوطن، والتضامن والتكافل، والإيثار، وأبدعن في نفس الوقت في تدوين " أشعار" سهلة وممتنعة بخصوص مواضيع ترتبط بمنتوجات المجتمع الرعوي، فضلا عن استعمال نظمهن الشاعري للتخفيف من وطأة الأشغال الشاقة والمتعبة، وأثناء مزاولة بعض الحرف التقليدية، والتقليل من شأن انتظاراتهن داخل البيت وبالحقل على إيقاع ميازين الفرح..... أمام هذا الزخم من العطاء والتراكم الجميل، نجد اليوم أن هناك مخططا يتربص بالمرددات النسائية، للإجهاز على هذه الكنوز التراثية مع سبق الإصرار والترصد.

إن أغاني الماية، و"المرددات النسائية" لم تسلم بدورها ( مثل فن العيطة) من التشويه والتحريف، حيث  تسللت مفردات مشينة وقبيحة إلى نصوصها المحترمة دون سابق إشعار، ( الشيشة ـ الماحية ـ الجنس  ) كلمات أقحمت في غناء المرددات، باستعمال ألفاظ نابية وقبيحة، من طرف بعض "المؤديات" اللواتي يطلقن على أنفسهن صفة " اللعابات"، لكنهن في واقع الحال لسن سوى " نساء" امتهن الغناء الساقط والرديء من أجل ضمان لقمة العيش، في مناسبات معزولة، تقام للاحتفال مثلا ب "الكديدة" بين مجموعات من النساء فقط، أو "قصارة" مختلطة بعيدا عن الأعين خارج الضوابط الاجتماعية، تلك المناسبات التي يختلط فيها الحابل بالنابل، ويتم فيها استعراض مفاتن المرأة، ووصف أعضاء جسدها برموز  ودلالات إيحائية تحط من كرامتها ، واستعمال مفردات من قاموس الانحراف، وتوظيف الكلام غير المباح، من كتاب الإيضاح في علم النكاح، والابتذال، والعهر، مما يعتبره العديد من المهتمين والباحثين، قصفا واستهدافا لأجمل موروث ثقافي شعبي عملت " الأم/ الناظمة" على إنتاجه وصقله وتلحينه، وغنائه وتحصينه عبر مراحل تاريخية.

لقد تم إغراق سوق الغناء والموسيقى الشعبية "بتسونامي" المسخ الغنائي، الحامل للكلام الساقط، واستوطنت فيديوهات غناء السفالة والانحطاط مساحات شاسعة من منصات التواصل الاجتماعي، (يوتوب و فايسبوك) موزعة بسخاء مفردات محشوة وسط الجمل الغنائية، يستحيي أن يسمعها الأب والأم أمام أبنائهم وأحفادهم، في جلساتهم الحميمية، بعد أن اقتحمت الصالونات والبيوت دون استئذان.

 إن التراث الغنائي الشعبي قد تعرض في شق غناء "اللعابات" إلى الابتذال والمسخ والثلوث، من طرف مغنيات وراقصات يحسبن أنفسهن " فنانات"، صنعتهن لحظات عابرة ، أكسبتهن الشهرة عن طريق لغة الجسد الإباحية، وتم استغلالهن ضمن بعض المجموعات الغنائية المتفسخة، على شاكلة مجموعة "التسونامي" و " التراكس"، و "هز يوز"، و " مك يا مك ضرب الشيشة وصبح منك "، وغيرهن ممن "زورن" كلام غناء المرددات النسائية، لترويج صور مواضيع المجون، والرقص الفاضح، والحديث عن الشيشة، والروج، والحشيش، والخيانة الزوجية، والاغتصاب والتحرش الجنسي، بالموازاة مع استعراض مفاتنهن، ومؤخراتهن، عن طريق العري، واللباس الشفاف لإغراء المتلقي وبيعه العرض الغنائي الماجن بالمزاد العلني، لإشباع رغبات "بسيكوباتية" حملتها رياح الشرق.

إن نوستالجيا، الحديث عن ذاكرة مجموعة "اللعابات" لا بد أن نستحضر فيه حفظهن عن ظهر قلب، لمرددات أغانيهن الجميلة ذات المواضيع المتنوعة والهادفة، وكيفية استعدادهن للمناسبة الاحتفالية (عقيقة / زواج/ ختان ...) وتشبثهن بعاداتهن وتقاليدهن التراثية على مستوى اللباس التقليدي المرتبط بهوية وأصالة المرأة المغربية، هذا اللباس/الزي الذي يتكون من " الشقة" ذات اللون الأبيض المشع، التي تتدثر بها المرأة  من فوق " القفطان والتحتية أو البدعية والسروال القندريسي" ، وتتحزم بالخلاخل الفضية، وتضع "القطيب" المطرز بالصم والحرير على رأسها المعصوب بعمامة بيضاء، وتنتعل " البلغة / الشربيل" المزركش بالألوان القزحية... ولأن المناسبة شرط فلا بد من التزين والتعطر بمواد تقليدية ، مثل، ماء الزهر، والمسكة الحرة، والحركوس، و السواك، والحناء، ولعكر الفاسي...  لتبدو الأم / المرأة الناظمة / الفنانة غاية في الجمال والتقدير والاحترام.

لقد كانت مجموعات " اللعابات" تصنع الفرجة في القبيلة والدوار بمردداتها الحكائية، وتخلق السعادة والإمتاع والمؤانسة بين أفراد العائلة خلال المناسبات والأفراح، وتغني نساء المجموعة بطلاقة وتلقائية دون حرج، في حضرة الأب والزوجة والإخوة والأبناء والضيوف ولمة الأحباب والجيران المتحلقين على صينية الشاي وصحون المكسرات وأطباق الكسكس.

نعم كانت مجموعة " اللعابات" تغني دون أن تخدش صورة العلاقات الاجتماعية والإنسانية، أو تقلل الحياء على المستمعين والمستمعات، ودون أن تستفز مشاعرهم النبيلة، لأن أغلب المرددات الغنائية  كانت عبارة على نصوص حكائية، وشعرية حاملة لقيم الأخلاق الرفيعة، ورسائل المودة والتقدير والاحترام، عكس ما يروج اليوم من ضجيج و " هيلالة" و " شطيح ورديح" و تفسخ أخلاقي، ورقص ماجن يستعرض ويكشف عن كثلة "اللحم البشري" الرخيصة، من أجل المال والشهرة لا غير.

إن الترحيب والتشجيع الذي وجدته بعض المجموعات الغنائية النسائية التي تروج للرداءة والسخافة والتفاهة، من لدن جهات معينة، فسح المجال لبعض "النساء"، لممارسة المزيد من التعسف على تراث المرددات الغنائية، وتبخيس صورة المرأة البدوية الناظمة التي أنتجت نصوصا من الوسط البدوي والزراعي، وتداولها المجتمع في أغلى المناسبات العائلية، حيث أضحى التلفزيون المغربي منصة مفتوحة لبرامج " فنية" تافهة تقتحم بيوت الناس بدون إذن، لتقديم أبخس المنتوجات المنتهية الصلاحية.

إن النصوص التلقائية والعفوية التي كانت متداولة وتناقلتها مجموعة " اللعابات"، وكانت ترددها نساء البادية  خلال مناسبات صناعة السعادة، و الفرح ، قد أنتجها وأبدعها الوسط الرعوي في تفاعله مع عدة عوامل اجتماعية وساسية واقتصادية ، وكان فيها لنساء البادية الكادحات دورا أساسيا على مستوى إبداع نصوصها التقليدية، وترويجها في الأوساط الاجتماعية الشعبية، لكن للأسف الشديد يتعرض اليوم هذا التراث الشعبي النسائي إلى التشويه والابتذال، إن لم نقل للانقراض بفعل طمس هويته وتحريفه وإغراقه بالكلام الساقط، والإيحاءات المرفوضة اجتماعيا .

إضافة إلى ذلك، هناك عوامل أخرى لعبت دورا أساسيا في اختراق وتحوير كلام نصوص مرددات الغناء النسائي الهادف، وساهمت في انقراض النظم والقول الجميل، وميعت تراث " الماية" ، من بينها بصفة عامة أننا فرطنا في تفاصيل حياتنا البدوية، وطريقة عيشنا ، ونفضنا أيدينا من تربة الانتماء للعالم القروي وقيمه الإنسانية، وفسحنا المجال للهجمة الشرسة لوسائط الاتصال ومنصات مواقع التواصل الاجتماعي لتفعل فعلتها في المتلقي بالبادية المغربية بمجرد لمس شاشة الهاتف النقال أو الضغط على أزراره السحرية... حيث لم يعد مجال الدوار، هو ذلك المكان الجميل والبسيط والعميق بفضاءاته وأمكنته وموارده البشرية والرمزية ( البئر / الحقل / البيدر / الزريبة / الكشينة / الخيمة....)، بعد أن حدث اختلاف/ انتقال مفاجئ في كل الأشياء بين الماضي والحاضر، حتى في السلوك والعادات ونمط الحياة، واخترقت تكنولوجيا الكهرباء البيوت وخيم البادية وغرفها واسطبلاتها، فتغيرت طبعا وسائل العمل في البيت والحقل والبيدر وتم غزو عاداتنا وتقاليدنا وطقوسنا الجميلة وتدميرها بشكل كلي، بعد تفريطنا في لغة تعابيرنا العميقة والمتجذرة.

هل مازالت "ريحة الدوار" الممتعة تنبعت فعلا من بين أركانه الدافئة؟ وهل ما زالت تفوح روائح دخان الحياة من وسط خيمه، ومن داخل اسطبلاته ، بعد أن غزت هندسة المباني والإسمنت المسلح كل جنبات المجالات الجغرافية القروية والتهمت أراضيها الفلاحية، وهل ما زالت المرأة البدوية قادرة على  تدوير وإعادة إنتاج وتطويع موروثنا الثقافي والتراثي، والاحتفال في كل المناسبات بتقاليدنا وعاداتنا الشعبية؟. ويمكن أن نتساءل اليوم مثلا:

ـ  أين نحن من طقس تهييئ المنسج باحتفالية جماعية، وما يستتبعه من أغاني "الماية" والمرددات النسائية أثناء الدزان (نزع  وقص الصوف عن جلد الماشية ) وغسل الصوف بجانب البئر أو الواد، وغزلها للوصول إلى مرحلة منتوج  صناعتنا التقليدية .؟

ـ هل مازالت المرأة اليوم قادرة على قول مرددات نسائية في وصف أفراح عرس الختان ثم الزواج والمخاض والولادة؟

لقد انقرضت الكثير من العادات والطقوس والتقاليد التي كانت أساسية في لمة/ جماعة النساء وخلق أجواء وشروط الغناء النسائي بشكل جماعي ( تنقية القمح / غسل الصوف / المنسج / أعراس الختان .)

إذا، من يتحمل مسؤولية هذه الانتكاسة، وهذا الاختراق والتمييع، الذي طال أبسط ما يملك المواطن المغربي؟ ألا يشكل هذا الفعل جريمة اتجاه تراثنا المادي واللامادي؟ كيف يمكن لنا إعادة إحياء وتنقيح وتدوين نصوص المرددات الغنائية النسائية وجعلها من وسائل التثقيف المجتمعي؟ إذا استثنينا برنامج صناع الفرجة المتميز، نتساءل لماذا نفضت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة يدها عن ربط الماضي بالحاضر على مستوى الأغنية الشعبية عامة وتراث " الماية"،  ومرددات أغاني النساء خاصة ؟ كم هو عدد المهرجانات البدوية بالعالم القروي التي تحتفي بالموروث الثقافي الشعبي والتراث المغربي؟

مؤطر: إن المجالس الترابية بالجماعات القروية مطالبة اليوم بشراكة مع القطاع السمعي البصري، ومديريات وزارة الثقافة، وجمعيات المجتمع المدني المختص، بإقامة مهرجانات تراثية خاصة بالموروث الثقافي الشعبي المرتبط بخصوصية مجالاتها الجغرافية، والتنقيب عن ميراث الأجداد على مستوى الطقوس والعادات، والأنماط الغنائية النسائية التي تميز مناطقها، وتوثيقها على اعتبار أنها جزء من ذاكرة وهوية الثقافة الشعبية الحاملة لرسائل القيم الإنسانية.