الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

ياسين بن ايعيش: التكنولوجيا والإنسان وإشكال الريادة

ياسين بن ايعيش: التكنولوجيا والإنسان وإشكال الريادة ياسين بن ايعيش

في الوقت الذي تتعالى فيه هتافات دعاة الثورة التكنولوجية، تطرح أسئلة عديدة نفسها: ما محل مخترع التكنولوجيا؛ أي الإنسان، من هذه الثورة؟، وهل هذا الأخير يعي تمام الوعي إلى أين يتجه؟، وحدود المخاطر المحدقة به؟

إن الانطلاق من هذه الصورة التي تختزن في طياتها كل شيء، يجعلنا نستشعر فداحة ما وصل إليه العالم اليوم؛ ففي ظل تكريس الجهود الرامية إلى بلوغ أقصى درجات التطور والتحضر التكنولوجي، يتم بالموازاة مع ذلك إهمال الثوابت التي لا اعتبار بدونها للإنسان، حتى أننا اليوم أصبحنا تبعا لآلات دون أن ننتبه إلى خطورة ذلك؛ إذ على الرغم من أن هذه الآلات لا تعدو أن تكون مجرد مخترعات من صنع الإنسان، هذا الأخير الذي طور الذكاء الطبيعي؛ القائم على الذاكرة الإنسانية والعقل البشري...، إلى ذكاء صناعي يوفر الجهد ويخزن ويحلل بكيفية سريعة يعجز عنها الذكاء الطبيعي!، وهنا تكمن المفارقة.

ففي ظل هذا المد المتزايد للتكنولوجيا، تتراجع سلطة الإنسان شيئا فشيئا، ويتسع البون بين الآلة ومخترعها؛ فإن كانت المصانع قديما تحتاج إلى عدد هائل من الموارد البشرية التي من شأنها أن تقوم بأعمال شاقة؛ بغية إنتاج لربما قد لا يحقق النتيجة المرجوة، فقد أصبحت اليوم آلة واحدة فقط كفيلة بأن تَشْغَلَ مهام المئات من العمال، بل وتستطيع أيضا تحقيق إنتاج مضاعف.

هكذا كان من البَدَهِيِّ أن يتجه أرباب المصانع والمعامل إلى تعويض عامل إنسان بعامل آلي، وفي هذا ما فيه من الاعتراف بتفوق الآلة على صانعها، والشأن نفسه حتى في مختلف المجالات؛ فالمعرفة أيضا تم تحويلها بواسطة الرَقْمَنَةِ لتتجاوز وضعها الطبيعي؛ حيث صرنا من خلال هذا المعطى نتحدث عن "مجتمع المعرفة"، كما جاء مع الأستاذ محمد مصطفى القباج، هذا المجتمع الذي لا مجال فيه للتراخي؛ لأن العالم الحالي يناشد السرعة في كل شيء، حتى في أخذ المعلومات.

لقد اقتضت الحاجة الملحة لطلب المعلومات في وقت قياسي، اقتضت توسيع ذاكرة الآلات الإلكترونية من قبيل الهاتف والحاسوب... وما إلى ذلك؛ حتى تتمكن هذه الآلات من تخزين وتحليل أكبر عدد من المعلومات دون أدنى صعوبة، وفي المقابل أصبح الدماغ البشري يضعف تدريجيا؛ لأنه أصبح في غنى عن الاشتغال بكيفية مستمرة كما كان الأمر قبل ظهور التكنولوجيا، وإن بدا أن هذا الأمر يصدق بشكل أكبر على المجتمعات التي لا تقرأ بكيفية مستمرة، ولا تنتج، فإن التأثير الذي يمس كينونة الإنسان وجوهره يهم الإنسانية جمعاء، ولا قِبَلَ لأحد بأن يدعي عدم تهديد هذا الخطر له؛ أي ذلك الخطر الذي استشعره البعض، خصوصا أولئك الذين لم تغرهم الطفرة التكنولوجية التي تكتسح العالم الآن، أكثر مما نبهتهم إلى محاولة البحث عن بعض البدائل التي تضمن للإنسان مكانته وخصوصياته، فكما يقول الأستاذ محمد مصطفى القباج "صحيح أن لهذه التكنولوجيا مساحة واسعة من الفعالية والتأثير، تبدو في ظاهرها أنها حَرَّرت الإنسان وقلصت من دوائر الرقابة، ولكن التَّشريط الآلي الإلكتروني قد يؤدي في نهاية المطاف إلى اغتراب الإنسان وسلب إرادته".

وفي الإطار نفسه يشير رجل الأعمال الصيني "جاك ما" إلى كلام قريب من قول مصطفى القباج، فجاك ما يرى أن التعليم اليوم صار تحديا، ويقول: إن لم تغير طريقة التدريس، فستكون الصين في ورطة بعد 30 سنة؛ لأن طريقة التدريس حاليا بالصين، والأشياء التي تدرس للأطفال هناك، هي أشياء بالية منذ 200 سنة مضت كما يقول؛ كونها مبنية على المعرفة لا غير. وهكذا لن يتعلم الأطفال كيف ينافسون الآلة، التي تتفوق علينا بالذكاء، وقد يستغرب المرء حينما يسمع هذا الكلام، الذي قد يبدو في الوهلة الأولى حاملاً لتناقض صارخ؛ إذ كيف لهذا الرجل أن يقول إن ما يدرس بالمدارس الصينية لا فائدة منه، والعالم يشهد على التقدم الذي يحققه هذا البلد!، فهل فعلا ما وصلت إليه الصين اليوم من تقدم يبين تردي محتوى ما يدرس بالمدارس الصينية؟، أم أن جاك ما يحيل إلى أمور تتجاوز المستوى الاقتصادي وما شابهه؟

لربما ستنقشع ضبابية الاستغراب بسرعة حينما نتوقف عند تتمة كلام جاك ما، الذي يؤكد على أن ما ينبغي تعليمه للأطفال يجب أن يكون فريدا؛ حيث لا تستطيع الآلة اللحاق بالبشر، هذا إن لم نقل أنها أتبثث فعلا لحاقها، بل وتفوقها على الإنسان، ومن بين الأمور التي أكد على ضرورة تعلميها نذكر: القيم، الإيمان بالنفس، القدرة على التفكير في المستقبل، روح الفريق، الاهتمام بالآخر، الرياضة، الرسم، الفن...؛ أي الجزء المعنوي التي لا تستطيع الآلات أن تتفوق فيه على الإنسان، ولنا أن نسقط كلام جاك ما على واقعنا أيضا.

وسندرك أكثر مدى فداحة الأخطار التي تحوم حولنا حينما تغزو الروبوتات العالم بحلول عام 2030، فآنذاك قد يجد الإنسان نفسه في الهامش، لأن الروبوتات ستلغي كما هائلا من الوظائف التي ما زال يشغلها الإنسان إلى حدود الساعة، وقد تقدر هذه الوظائف بحوالي 800 مليون وظيفة في العالم أو ما يزيد عن ذلك.

أمام هذا الواقع الذي يخترق حدود الممكن والمحال أيضا لنا أن نتساءل: ما فائدة الإنسان بعد أن تفرض الآلة سلطتها الكاملة على مخترعها؟؛ ما دامت هذه الآلات ستقوم بكل ما يستطيع الإنسان القيام به، وبكيفية أفضل!، وهل نحن فعلا نستشعر خطورة أن تتغلب علينا آلات من الإنسان؟؟، ومتى سيتم تحيين تلك البدائل التي تضمن للإنسان مكانته، وتحفظ له اعتباراته؟