لم يحدث لأي حزب بالمغرب الحلم بالوجود في مراكز القرار من الأدنى إلى الأعلى بمثل ما حدث للأصوليين اليوم. فحزب «البيجيدي» هو الحزب الحاكم في معظم المدن والمجالس المحلية بالمغرب، وهو الحزب الأغلبي في البرلمان، فضلا عن كون رئيس الحكومة هو الأمين العام لحزب "لامبا".
هذه الوضعية في الدول المتمدنة تعد فرصة سانحة ليناغم الحزب سياسته الوطنية والمحلية بما يسعد السكان ويحسن مستوى معيشتهم ويساهم في تجويد رفاهية العيش الحضري.
في المغرب، وبعد اقتراع 2015، أصبح العمدة الأصولي في هذه المدينة أو تلك يتوفر على أغلبية كاسحة تغنيه عن السقوط في فخ ابتزاز الحلفاء أو الخشية من فقدان المقعد أو التصويت بالرفض ضد المقررات. وهو يتوفر على أغلبية برلمانية يفترض أن تسن القوانين التي تذلل الصعاب وترفع من تجويد أداء المرفق العام، أضف إلى ذلك فهو مسنود بحكومة يقودها زعيم الحزب، وهي (أي الحكومة) التي لن تبخل عليه بالمال والدعم لتمويل هذا البرنامج أو تلك السياسة العمومية المحلية.
لكن أين نحن من هذا «التوصيف البراق»، وقد مرت نصف المدة على الولاية الجماعية الحالية؟
قبل الجواب علينا العودة إلى ما قبل 2015 وما ميزها من رفع السقف عاليا من طرف الأصوليين الذين كانوا يدعون أنهم لو ظفروا بأغلبية تدبير المجالس المحلية فسيحولون المدن إلى «جنات نعيم» يرفل فيها المغاربة في الرفاهية و"الكونفور" (le confort)
ولما جاءت الانتخابات الجماعية لسنة 2015، وحصد الأصوليون أغلبية المقاعد بسبب نظام اقتراع «مخدوم» ونمط اقتراع «مصروع»، تربعوا على عروش المدن (طنجة، تطوان، فاس، مكناس، سلا، الرباط، البيضاء، مراكش، القنيطرة، خريبكة، أكادير، سطات، المحمدية، إلخ...). وتحكموا في مفاصل القرار المحلي وتم تخدير الرأي العام من طرف كتائب البيجيدي التي تمت تعبئتها من طرف قيادة الحزب للترويج لشعار "التغيير نحو الأحسن قادم"!!
لكن المغاربة، الذين يقدسون أقوال الأجداد، ظلوا دوما حذرين وأوفياء لمقولة: «تبع الكذاب حتى لباب الدار». وها هي الولاية الجماعية الحالية تلتهم نصف عمرها تظهر إلى أي حد كان حزب البيجيدي يخدر الشعب، وتبين أن أكبر إنجاز حققه منتخبوه في المدن هو «الكذب»: الكذب على الله والكذب على الشعب.
فكل المدن التي يسيرها منتخبو «البيجيدي» تعرف أعطابا كبرى في التدبير واختلالات فظيعة في التسيير، مما أرهق الميزانية العامة في التبذير وإهدار المال دون أن تتحسن وضعية المرافق المحلية الموضوعة تحت إشراف الأصوليين.
فإذا أسقطنا بعض الإشراقات بالرباط التي تعد عاصمة الحكم، والتي لم تتحرر فيها العقليات بعد من ظهير «الوالي هو الآمر بالصرف» رغم صدور قانون تنظيمي جديد يمنح عمدتها كل السلطات، وإذا أسقطنا مراكش التي وهبها الله طابعا دوليا (مما يفسر لماذا هناك بعض التدخلات من طرف السلطات العمومية)، فإن باقي المدن الأخرى لم تشهد سوى المزيد من التردي والانحطاط.
هناك ثلاثة أسباب في نظرنا تفسر فشل الأصوليين في النهوض بمهام تدبير المدن بالمغرب:
- أولا: غياب أدنى إحساس بالمسؤولية لديهم لممارسة الصلاحيات وتعبئة الإمكانيات والموارد بما يخدم انتظارات المواطنين لأن الأصوليين لا يعتبرون المقعد بالجماعة (وأيضا بالحكومة والبرلمان) كفرصة لتنزيل التعاقد الانتخابي بقدر ما يعتبرون المقعد «غنيمة» و«فيء» حصلوا عليه عقب الانتصار على المغاربة «الكفار»! وبالتالي فتلذذهم بكرسي العمودية وما يدره من امتيازات هو في حد ذاته -في نظرهم- أسمى "غزوة"!
- ثانيا: عدم توفر الأصوليين على أي تجربة أو دراية بقواعد تدبير الشأن العام. انعدام التجربة ليس عيبا في حد ذاته (إذ ليس مطلوبا من السياسي أن يكون ملما بكل قواعد التدبير، مع تحفظنا الشديد على ذلك)، إن كان ذلك مصاحبا بإرادة في التعلم والبحث عن كفاءات وأطر مؤهلة للاستشارة وإسداء النصيحة. إذ لو بادر عمداء المدن الأصوليون بالاستشارة بمن هم أدرى وأحسن منهم في إدارة الشأن العام لأمكن التغلب على العديد من المطبات، لكن «الراس القاصح» الذي يتوهم أنه هو «الملم» و"المبدع" و"الخلاق" دائما يعرض المصالح العامة للضرر ويسيء إلى حاجيات المواطنين.
- ثالثا: انشغال الأصوليين بتدمير بنيان الإدارة بتغذية الزبونية والولاء الحزبي في توزيع المسؤوليات داخل المجالس المحلية، وبالمقابل دفع الكفاءات والأطر المتمرسة إلى المغادرة أو التهميش في أضعف الأحوال. وهذا أفقد العديد من المدن أطرا متمرسة على التسيير التي عوضت بأطر متمرسة على «لحيس الكابة» وتسلق المناصب بفضل بطاقة الحزب وليس بفضل الاستحقاق.