السلفية المُتطرِّفة حركةٌ دينية، منسوبة للإسلام السني، تبنَّت وتتبنَّى التَّطرفَ أو المغالاة أو المبالغة في فهم الدين وفي تنزيله على أرض الواقع. بل أضافت له مبادئ التَّشدُّد la radicalisation والقساوة la cruauté بمعنى أنها تشكِّل ثيارا فكريا un courant de pensée يرفض الاعتدالَ la modération ويضع محلَّه التَّطرف l'extrémisme في فهم وتطبيق التَّعاليم الدينية. وما يُميِّز السلفية المُتطرِّفة عن الإسلام المعتدل l'islam modéré، هو رغبتُها المُلِحة في عودة إسلام السلف الذي أطلقوا عليه اسمَ "السلف الصالح"، أي السلف الذي كان إيمانُه لا تشوبُه شائبة. وهذا غير صحيح. لماذا؟
لأنه لا يوجد، على الإطلاق، مجتمعٌ بشري كل أعضائه مستقيمون droits، صادقون sincères، نزهاء probes، صالحون vertueux، نقِيون corrects… أي يتقاسمون كل القِيم الإنسانية السامية. لو كان هذا النوع من المجتمعات مُمكنَ الوجود، ما قال، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 251 من سورة البقرة : "فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ…وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ". الدفع، في هذه الآية، هو الصراع le conflit القائم بين الخير والشر، بمعنى إذا تغلَّب الشر على الخير، سيعُمُّ الفساد في الأرض. لكن اللهَ، سبحانه وتعالى، لطيف بعباده بجعل كفَّة ميزان الخير راجحة بالنسبة لكفَّة الشر.
إذن، عندما يزعم السلفيون أن السلفَ كله "صالح"، فهذا كلامٌ هُراء لا يقبله المنطق ولا يقبله عقلٌ مُتَّزنٌ، نيِّر ومُستنير. إنه كذِبٌ بواح، الهدف منه إثبات الذات والوجود، أي لإثبات وجودهم كتيار فكري تبنَّى التَّشدُّدَ والقساوة في فهم الدين وتنزله على أرض الواقع. ولجوء السلفية إلى الكذب، المُرادُ منه، هو طمسُ الحقيقة وإخفاءها على الناس. فلماذا عنوَنتُ هذه المقالة ب"أطروحة السلفية المُتطرِّفة خلَلٌ نفسي وليست تعمُّقاً في الدين"؟ لأسباب عديدة، أذكر من بينها ما يلي:
أولا وقبل كل شيءٍ، السلفيون يعرفون، حقَّ المعرفة، حقيقةَ الدين الإسلامي الذي نزل على آخِِرِ الرسل والأنبياء، محمد (ص)، عن طريق الوحي الذي هو القرآن الكريم، والذي كان مُكلَّفا بتبليغِه للناس. بل يعرفون، حق المعرفة، أن الإسلامَ دينٌ معتدل modéré، وسطي une religion du juste milieu وسمح tolérant. وهم، أعني علماءهم وفقهاءهم، الذين أضافوا له كلَّ ما هو مضادٌّ للاعتدال la modération وللوسَطِية le juste milieu والتسامح la tolérance. أضافوا له التَّشدُّد la rigidité، التَّطرُّف l'extrémisme وعدم التسامح l'intolérance، أي كل ما يجعل الدينَ ديناً أتى بالتشدُّد والقساوة، أي دينٌ يُخِيف، يُرهِبُ ويُروِّع.. وهذا شيءٌ لا وجودَ له في القرآن الكريم.
ثانيا، من أين أتى هذا التَّشدُّدُ وهذه القساوة؟ أتت من كثيرٍ من الأحاديث التي صُنِِعَتْ صُنعاً، والرسول بريءٌ منها، لأسباب سياسية، إجتماعية، اقتصادية، تجارية، ولائية، وبالأخص، نتيجةً للتواطؤ الذي كان قائما بين الحُكَّام وعلماء وفقهاء الدين، وخصوصا، في فترتَي حكم الأمويين والعبَّاسيين. كل جهة تجد ضالتها في الجهة الأخري، وهو ما نسمِّيه، في عصرنا الحاضر، "تبادل المصالح".
إذن، السلفيون المتطرِّفون يلجأون لتبرير وجودهم وإثبات ذاتِهم إلى الكذب على الناس، إذ يستشهدون بأشياءَ غير موجودة في القرآن الكريم وبأحاديث مصنوعة ولا يمكن لمَن اختاره الله، سبحانه وتعالى، لنشر رسالة الإسلام، التي هي دينَ الحق والعدل والتسامح، أن ينطقَ بها أو أن يفعلها. يكذبون على الله وعلى رسوله (ص) وعلى المؤمنين. وكل مَن يلجأ إلى الكذب متعمِّدا للتأثير على عقول الناس وإرغامٍها على الميول إلى أطروحتِه، فإنه يعاني من خللٍ نفسي un trouble psychologique أو شخصيتُه ليست على أحسن حالٍ un trouble de la personnalité.
ولهذا عنونتُ هذه المقالة ب"أطروحة السلفية المُتطرِّفة خلَلٌ نفسي وليست تعمُّقاً في الدين" la thèse du salafisme est un trouble psychologique et non un approfondissement de la religion. بالفعل، كل سلفي يؤمن إيمانا راسِخاً بالتَّطرف الديني، يجد نفسَه مُرغما على الكذب لإثبات وجوده وذاته، فكريا واجتماعيا. والكذب، عندما يتكرٍَّر ويصبح عادةً تُمارس بانتظام، قد يؤمن بعض الناس بما يُروِّجه من أفكار. وهذا هو، بالضبط، ما يسعى السلفيون المتطرِّفون إلى إشاعتِه بين الناس. حبنها، يصبح الكذب هوساً une mythomanie تُعوَّض بمزيد من الكذب. أي خللٌ في الشخصية.
وبالطبع، ما يدعيه السلفيون المتطرِّفون، ليس، على الإطلاق، تعمُّقا في فهم الدين وإدراك مقاصده. فهل يُعقل أن نتحدَّثَ عن تعمُّقٍ في الدين غير موجود لا في القرآن الكريم ولا في أقوال وأفعال الرسول (ص)؟ إنهم يفترون الكذبَ على الله وعلى الرسول (ص) وعلى المؤمنين، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (الأنعام، 21).