لا يمكن منطقا الخوض في قراءة موضوعية للمشهد السياسي المغربي، وإعطاء تقييم علمي اعتمادا على منطلقات سوسيولوجية وسياسية لمختلف الأحداث والمواقف المعلنة من هذا المكون أو ذاك، قبل تأصيل أسس الممارسة الديمقراطية، وتحديد دعائم النظام الديمقراطي كما حددها رواد الفكر السياسي التنويري أو المعاصر.
فالديمقراطية كشكل سياسي لتنظيم الحياة الاجتماعية لها جانب شكلي وآخر موضوعي:
من الناحية الشكلية تقتضي الديمقراطية :
1- على مستوى هيكلة الدولة، وجود وثيقة دستورية تضع إطارا قانونيا للعلاقات بين مختلف السلط والمؤسسات، وبين هذه الأخيرة والمواطن في مختلف مواقعه الاجتماعية.. وبالطبع ينبغي أن تتضمن الوثيقة الدستورية إقرارا صريحا بفصل السلط، وتحديدا واضحا لمجال كل سلطة،
2- على مستوى التنظيمات السياسية، وجود هياكل تنظيمية تحتكم لقواعد الديمقراطية في اتخاد القرارات السياسية، ووجود دورة تنظيمية تسمح بمشاركة جميع قواعد التنظيم في صناعة القرار وتنفيذه ومراجعته عند الضرورة، وبالطبع وجود آليات تنظيمية واضحة لمحاسبة القيادة ومراجعة قراراتها التي لا تعكس الروح الديمقراطية ..
3- على مستوى التنظيمات المدنية، تكريس قواعد الديمقراطية في التسيير والمسؤولية والتداول على مراكز القرار ..
هذه الجوانب الشكلية للديمقراطية، يمكن القول بأن المغرب قطع فيها أشواطا ملموسة على مستوى الترسانة القانونية ، وكرسها في مختلف النصوص المؤطرة للمجالات الثلاث (نص الدستور، قانون الاحزاب السياسية، قانون الحريات العامة).
ومن الناحية الموضوعية:
- على مستوى الإرادة السياسية، الأمر ليس كما يبدو مرتبطا بشعار سياسي أجوف، أو قيمة أخلاقية مثالية متجردة من أي حساب سياسي.. إن الإرادة السياسية للدولة والفاعلين السياسيين في تكريس قيم الديمقراطية في كل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هي تعبير بالملموس عن وجود تعاقد سياسي بين جميع الفرقاء على تحكيم آليات التباري الديمقراطي في حسم الصراعات بين الرؤى السياسية وتدبير الاختلافات الجوهرية في المشاريع الاجتماعية التي يضعها كل طرف انطلاقا من مصالحه الاجتماعية والسياسية الفعلية.. وعليه تجسيد الإرادة السياسية في تكريس الديمقراطية كخيار استراتيجي لدى الجميع، مرتبط بعقد اتفاقات حد أدنى حول القضايا الجوهرية التي تتأسس عليها الممارسة الديمقراطية، ومنها :
- فصل الدين عن الدولة، ليصبح الشأن السياسي مجال للتباري بين الافكار والرؤى السياسية وعلى المشاريع الاجتماعية التي تنهل من المعيش اليومي للمواطن دون الارتكان إلى ايديولوجية مبني على قدرية دينية أو قدسية مفترضة أو حتمية طوباوية ...
- اعتبار الفصل الحقيقي للسلط وربط المسؤولية بالمحاسبة منطلقا لكل تعاقد سياسي بين الدولة وباقي الفاعلين السياسيين، وأن الإرادة الشعبية المعبر عنها بحرية من خلال صناديق الاقتراع، ومن طرف أغلبية الناخبين الذين ينبغي أن يكون تسجيلهم باللوائح الانتخابية أوتوماتيكيا بمجرد بلوغ سن الرشد لكون التسجيل في اللوائح والمشاركة في صناعة القرار الوطني حق دستوري مكفول للجميع قبل أن يكون واجبا، هي المصدر الوحيد لكل السلط..
- اعتبار المدرسة العمومية أولى الاولويات الغير القابلة لأي حساب سياسي ضيق، مدرسة عمومية تقوم كرافعة للتنمية والتربية على المواطنة وعلى قيم حقوق الانسان والسلوك المتمدن، وهذا يقتضي من الجميع وضعها كمنطلق لكل الاختيارات السياسية والاقتصادية والثقافية، مما يعني بالملموس إبعاد المجال التعليمي عن كل أشكال المضاربة والمتاجرة، وحصر دور مؤسسات التعليم الخصوصي في إسناد المدرسة العمومية عبر تأطير الحالات الخاصة التي لا تستطيع لسبب أو آخر مواكبة التمدرس داخل المؤسسات العمومية كما عليه الأمر سابقا..
- الإعلام الحر والمستقل والمستوعب لكل أشكال التعبير عن الرأي والعاكس للتنوع الفكري والثقافي واللغوي، رافعة أخرى للتنمية تفسح المجال لكل الطاقات الخلاقة داخل المجتمع للمساهمة في بلورة الدكاء الجماعي للمواطنين، وتخلق تعبئة وطنية حقيقية من أجل خلق نموذج تنموي حقيقي وواقعي وفقا لإمكانيات البلد وانتظارات المجتمع.. يجب إذن تفعيل مرسوم إنهاء احتكار الدولة للقطاع الإعلامي السمعي البصري وفتح الباب أمام كل المشاريع الإعلامية الجادة والجيدة لتنويع وإغناء المشهد الإعلامي.. يقتضي الامر أيضا فتح المجال أمام الاعلام المكتوب والالكتروني للتفكير والتعبير والنشر الحر للرؤى والتحاليل والمواقف ومواكبة تدبير الشأن العام بما يساهم في تكريس الشفافية والمسؤولية ..
الديمقراطية لا يكفي أن نقيم لها مؤسسات شكلية ومساطر جوفاء ونصوص ميتة ومهرجانات ومواسم ليتحقق جوهرها الذي ساعد المجتمعات المتحضرة في بناء نهضتها، وإلا سنكون كمن يبني أضرحة ومعابد ويقيم تماثيل يمارس فيها وعبرها طقوسه الروحية ويحقق من خلالها الصفاء الروحي والإشباع الوجداني، ليخرج بعدها إلى معمعان الحياة مجردا من كل شيء ..
الديمقراطية هي الشكل الأرقى كونيا لممارسة السياسة وتدبير الاختلافات بأخلاق، هي الإيمان بأن الحقيقة نسبية والاختلاف قيمة مضافة واستثمار إيجابي لمحصلة الدكاء الجماعي لكل قوى المجتمع الحية..
الديمقراطية تقتضي وجود مواطن بالمعنى التنويري للكلمة، المواطن المتمتع بكرامته، المستقل في رأيه وقناعاته، الواعي بدوره ومسؤولياته داخل المجتمع.. وهي بذلك تتعارض مع كل تعامل مع هذا المواطن على أنه مريد أو رعية أو تابع.. وهذا يستتبع بالضرورة اعادة هيكلة الحقل السياسي لتخليصه من بقايا الزاوية والعشيرة والقبيلة...
الديمقراطية ليست خطابا موسميا يتلى وينشر مع الحملات ويطوى في الرفوف والنسيان، ولا يجد له موطأ قدم في رسم السياسات العمومية وتدبيرها..
والديمقراطية لن تكون تداولا شكليا على سلط شكلية، تضيع معها المسؤوليات وتتعطل المحاسبة وترهن المشاريع المجتمعية على إرادة سياسية غير واضحة المعالم ...
هذه الديمقراطية الشاملة والمنشودة تبقى أفقا ممكنا إذا تكاثفت جهود كل الديمقراطيين بإيمان بأن الوطن للجميع، وفي تجاوز عقلاني للأسقف الواطية للبيوتات السياسية التي يتضح مع كل انعطافة سياسية أنها لا تسع الحلم الديمقراطي.. يجب استكمال هدم الجدران العتيقة التي تحجب الافق وتعيق اكتمال الرؤية السديدة ...