مرت خمس سنوات على صدور الدستور السادس ، والذي اعتبرناه في المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف – وعلى علة نواقصه – وسيلة سياسية / شكلانية للتأسيس لصك الحقوق والحريات ، وسيلة سياسية منسجمة مع آلية الحركية الاجتماعية المتوجة بحركة عشرين فبراير ، من أجل تحريك وتوجيه تمثلات الحقيقة والإنصاف وفق ما طمحت إليه التسوية الوطنية التي بلورها الفاعلون السياسيون والاجتماعيون والحقوقيون عبر ثلاث وثائق أساسية ومؤسسة ، الأرضية التوجيهية ومبادئ منتدى الحقيقة والإنصاف ، وتفاعلها مع توصيات المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، في ارتباط تقني مع الإتفاق الإطار المبرم بين هيأة متابعة توصيات المناظرة المذكورة وبين الدولة المغربية في شخص القطاعات الحكومية وعلى رأسها وزارة الداخلية ، والتي انصهرت بشكل من الأشكال في توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة ، مع تعديل في بعض المطالب الجوهرية أو تأجيل إن صح التقدير ، يتعلق الأمر بمطلب الحقيقة والمساءلة .
وفعلا جاء خطاب تاسع مارس لكي يستدرك ما فات في المحتوى والتفعيل ، فبادر الى الإقرار بأهمية دسترة توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة ، عبر التركيز على مبدأ ربط الممارسة بالمحاسبة اقترانا بمبدأ عدم الإفلات من العقاب ، هو استدراك لأن مسلسل العدالة الانتقالية يعتبر المساءلة شرط لنجاح الانتقال ،بدل الاكتفاء بشرط " عدم إثارة المسؤوليات الفردية " الذي لم يقدم أي قيمة مضافة لمطلب طي صفحة الماضي ،خاصة وأن الصراع كان مرتكزا على هاجس اقتسام السلطة وما ترتب عنه من عنف وعنف مضاد وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ، وبدل أن ينتاب الدولة توجس بناء دينامية تقطع مع ماضي الانتهاكات والتقديم لأسس مصالحة وطنية حقيقية وعادلة في العلاقة مع الحقيقة والإنصاف ،هذه الأسس التي لا تعني سوى التسطير لقوانين تنظيمية تسير في نفس الروح التي جاء بها دستور ، بسن مقتضيات تشرعن لآليات وضمانات قانونية ومؤسساتية ،عوض هذا ، كلفت أول حكومة في ظل هذا الدستور بالتشريع لمقتضيات تؤمن الحصانة للعسكريين وعدم مساءلتهم جنائيا كلما اقترفوا انتهاكات في حق المواطنين والمواطنات الذين اعتقدوا أن حقهم في التعبير والاحتجاج صار مضمونا بمقتضى الدستور السادس وبأن ارهاب الماضي الدولتي صار في خبر كان . ونظرا لأهمية هذه المقتضيات لدى الجلادين المفترضين ،فقد تم الحرص على تمريره ضمن أجواء خيم عليها هاجس توزيع الصلاحيات بين الملك ورئيس الحكومة ،وقد صودق عليها في أول مجلس وزاري يلتئم قانونيا ،وقبل المصادقة على أي مشروع آخر ، وكأن العسكريين فوق المؤسسات والطبقات والصلاحيات ،فلماذا هذا الاستعجال وهذا التمييز والأفضلية ؟ ومن له مصلحة في حرمان تجربة الانتقال من الانتقال ؟ وما الدافع الى التراجع عن إرادة الاصلاح والمصالحة باقبار توصيات هيأة الانصاف والمصالحة ؟ أليس من شأن هذه المغامرة الحيلولة دون ضمان تجنيب رياح التغيير مخاطر اللايقينية والانتكاس ، حيث لازال الزمن السياسي المتوتر مفتوح على كل الاحتمالات ؟
لقد كان الرهان على تطهير الممارسات من مظاهر الاستبداد والفساد عبر الهندسة دستوريا لصك الحقوق والحريات وتحصينها ودمقرطتها بمبدأ المحاسبة والمساءلة وذلك بإقرار المساواة أمام القانون ،بنبذ التمييز والمواطنة الامتيازية وما يسمى بالخصوصيات ،والاستثناءات ، فكل هذه الاجراءات اللادستورية تحيل كل الذين تبنوا فكرة تمكين الملكية من شروط الاستمرار ضمن معادلة عدم تكرار ما جرى مقابل قاعدة " لا غالب و لا مغلوب " كوسائل " حقوقية " مقبولة تعاقديا للاعتراف بالشرعيات تبادليا والنظر الى المستقبل المشترك عبر حكامة أمنية جيدة وأمن قضائي ناجع ،يسود من خلالهما القانون على الإرادة العامة في ظل هشاشة مؤسسة الاقتراع وفي أفق البناء للملكية البرلمانية في ظل دستور وطني بشرعية دولية ، لكن يبدو أن مهندسي المرحلة تناسوا أن الشرعية الدمقراطية لا تمنح إلا عبر صناديق الاقتراع وفي شروط دمقراطية ، يكون فيها الاختيار حرا وغير مشوب بأي عيب من عيوب الأمية والتدليس والغبن ،وبالنسبة لمصير مسار تنفيذ مقتضيات الإصلاح فقد كانت المصادقة (في المجلس الوزاري ) على مشروع القانون المتعلق بحصانة العسكريين أو لنقل المتعلق بحماية العسكريين جنائيا ،بمثابة ردة دستورية وتقزيم لإرادة التجاوز بالإصلاح ، وحتى الفاعلين السياسيين الذين وقفوا في وجه المقتضيات الجنائية الجائرة ،اقتصروا على ضرورة إدخال بعض التعديلات على المادة السابعة التي تشرعن للافلات من العقاب ،والحال أن مطلب الحقيقة سيتم اقصاؤه من خلال المادة السادسة من نفس مشروع القانون ،فهي تمنع العسكريين العاملين والمسرحين الادلاء بأية معطيات تتعلق بممارساتهم خلال فترة معينة ،بعلة المساس بأسرار الدفاع الوطني ، في تعارض كامل مع مطلب المحاكمة العادلة والأمن القضائي والحق الإنساني غير القابل للتصرف في معرفة ما جرى ،لأن معرفة الشعوب لتاريخ اضطهادها هو جزء من ثراتها ،ولعل الحقوقيين واعون بأن القوات المسلحة على الصعيد الدولي والاقليمي تبحث لها عن صكوك غفران نظرا للفظاعات المرتكبة ، وقد اجتهدت بعض الدول على ضوء الربيع الدمقراطي في البحث عن صيغ لمصالحة الجيش مع مجتمعه ، غير أنه في المغرب تم الأمر بطريقة تدليسية واستعملت الأغلبية الحكومية ،والتي لبعض أعضائها ،علاقات وحساسيات ،معنوية وعضوية بالضحايا والمنتهكين على السواء ،مما يطرح سؤال الحياد والموضوعية المتطلبين في مثل هذه العملية الانتقالية ،وسؤال هشاشة التعاقد مع هذه الأغلبية التي تعيش بنيتها الداخلية تحولات خطيرة غير مضمونة ،وبالتالي لا يمكن الركون الى مؤهلاتها ومصداقيتها في تأمين ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لأن أسبابها لازالت قائمة اقتصاديا واجتماعيا ، بغض النظر عن غموض المشاريع المجتمعية وعدم قدرتها على استيعاب امكانيات فصل السياسة عن الاقتصاد والدين عن السياسة ،لذلك كان على الدولة الارتكاز على الشق السياسي في توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة كأرضية للاصلاح المؤسساتي والتشريعي ضمن وثيقة دستورية تيسر التحول السياسي المطلوب وفي سياق مسلسل واضح الاشارات والمؤشرات ،ينطلق بتسوية نهائية لملفات جبر الضرر الفردي والجماعي وتقديم إعتذار رسمي ،وتسليم رفات جميع الضحايا التي تم العثور عليها أو اكتشافها ، وإقامة المسافة مع الملفات المفتوحة ضد مجهولين من أجل بلوغ الحقيقة ،وفي نفس السياق وبالموازاة كان من المفترض التفاوض مع المعنيين مباشرة حول صيغ لضمان الحق في معرفة الحقيقة وملابساتها ،قبل بلوغ مفترق الطرق ،حيث يبقى الاختيار لذوي الحقوق في تحديد طلباتهم المدنية أو الجنائية ،ضمن قواعد مفتوحة من شأنها أن تفتح امكانيات وتقنيات قانونية تضمن " خروجا هادئا " لبعض المذنبين ، هذا الخروج الذي يبدو أن مهندسي مشروع قانون حصانة العسكريين أرادوه بدون ثمن ؟؟ وهذا ما يؤكد أن المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف كان على حق عندما قدم مذكرته حول المراجعة الدستورية مركزا على ضرورة اعتماد الوثيقة صكا للحقوق والحريات المؤطرة بتوصيات هيأة الإنصاف والمصالحة ، هذا الصك الذي يصلح مدخلا لاستكمال الانتقال ان كانت له إرادة ، وفي إطار مواصلة تنفيذها ،اعتبر المنتدى أن الملك هو المسؤول عن الأجرأة والتفعيل ليس فقط باعتبارها التزامات صادق عليها ولكن باعتبار طابعها الدستوري الذي لايمكن في أي حال أن يكون غير الملك ضامنا لها وبعده المؤسسة القضائية والتي هي الأخرى نالت استقلالها دستوريا ، وقبل تشكيل مجلسها الأعلى كسلطة ، أريد لبعض الفئات من المواطنين أن يكونوا خارج رقابتها سواء من حيث مشروعية تصرفاتها أو شرعيتها ، فإذا كان الجميع يطمح الى بناء دولة الحق والقانون ،فإن صك الحقوق والحريات قد خصص له الباب الثاني بعد المبادئ والتصدير ،على مستوى الهندسة الدستورية وقبل مكونات السلطة والتنظيم ،ووفر له الدستور آليات للحماية والتحصين وعلى رأسها مبدأ ربط الممارسة بالمحاسبة ووفقا للمساواة أمام القانون الذي ينظم السياسة الجنائية لتفادي الجرائم وردع المجرمين ،حماية للحق في الحياة والتعبير والتنظيم .وقبل سنوات سبق أن سمح للعراقيين بالنفط مقابل الغذاء ، ونحن المغاربة لسنا في وضعية -رغم موازين القوة المزعومة – نقبل فيها مساومة ضحايا سنوات الرصاص بقانون حماية العسكريين مقابل جبر الأضرار الفردية والجماعية ، فأغلب الضحايا أبناء مقاومين وأعضاء جيش التحرير ،أدوا الثمن من أجل تحرير الوطن والإنسان ، ومع ذلك فهم يعتبرون أنفسهم في نفس المستوى والدرجة أمام القانون ،مع باقي المواطنين والموظفين والأجراء لدى الدولة أو القطاع الخاص ،لكل حسب كفاءته وعطائه قبل حاجته ومستواه الوظيفي والإجتماعي .
كتاب الرأي