جنيف في المتخيل العالمي هي عاصمة أممية، وفي متخيل آخر هي عاصمة «الحياد السويسري»، بينما يتمثلها آخرون بكونها عاصمة البذخ والغلاء الفاحش.
لكن من النادر أن تجد من يسوق الصورة الأخرى البشعة لمدينة جنيف كعاصمة للنفاق بامتياز.
فهنا في جنيف تتخذ القرارات وتدبج الشعارات في منظمة الصحة العالمية بشأن وجوب تمتيع سكان العالم الثالث بالحق في العلاج والولوج للأدوية، في حين أن الشركات السويسرية هي التي تحتكر في الغالب صناعة الأدوية وتمارس سياسة حقيرة بخصوص أثمنة الدواء، وتحرص على إغراق أسواق العالم الثالث بأدوية باهظة الثمن وترفض الترخيص باستعمال الأدوية الجنيسة ذات المفعول الناجع وبالثمن المناسب حتى يبقى لها هامش كبير في الربح.
هنا في جنيف تقرر السياسة الدولية بشأن حقوق الإنسان وما ينغي على الدول فعله بشأن حماية النساء والأطفال من جرائم الاتجار بالبشر. والحال أن جنيف حطمت الأرقام القياسية في احتضان مافيات الاتجار بفتيات أوروبا الشرقية وعرضهن في سوق النخاسة الجنسية في حي «لي باكي»، غير بعيد عن مقر مجلس حقوق الإنسان، وتحت أعين الشرطة السويسرية.
هنا في جنيف تطبخ القرارات المرتبطة بالعدالة الاجتماعية وبحق الشعوب في الانتفاع من ثروات بلادها.. والحال أن جنيف هي عاصمة تبييض الأموال القدرة المتأتية من التهرب الضريبي وسرقة خزائن الشعوب من طرف حكامها الديكتاتوريين، لدرجة أن كل بنك سويسري «يرقد» على ثروات من ذهب آتية من مسارات النهب والاختلاس، وهو (أي تبييض الأموال الوسخة) الذي توظفه الدولة السويسرية لتحقيق ما تسميه «رفاه شعبها»، ولو على حساب الشعوب الأخرى.
هنا في جنيف يتم ذرف دموع التماسيح حول مآسي اللاجئين ويتم التحرش بالعالم بوجوب معاملتهم معاملة إنسانية، في حين أن سلطات جنيف لا تترك أي فرصة إلا وتستغل مآسي اللاجئين بالعالم لتحريك اقتصادها، ولو على حساب جثث المبعدين والمهجرين، خاصة على مستوى اللوجستيك والنقل بحكم أن سويسرا تملك ثاني شركة نقل بحري بالعالم (بعد الدانمارك). فرغم أن سويسرا ليست دولة بحرية فهي تتحكم في معظم ممرات الملاحة التجارية البحرية. وبالتالي كلما كثر اللاجئون كلما ازدادت أرقام معاملات الشركات السويسرية لتموين حوالي 150 مليون لاجئ بمختلف بؤر التوتر بالعالم الذين حولتهم سويسرا إلى سوق اقتصادية تجني من ورائه الملايير تحت أعين المغفلين من ساسة ونخب العالم الثالث.
هنا في جنيف يتم يوميا مطرقة الرأي العام الدولي بأن سويسرا هي «دولة الملائكة» المهووسين بتخفيف مآسي ضحايا الحروب، والحال أن كل حرب تندلع بالعالم إلا وتحولها سويسرا إلى مضخة لحلب العالم.
وآخر أوجه النفاق السويسري، هو الصفقة التي ستدر الملايير على شركات «الكونفدرالية الهيلفيتية»، عقب الاتفاق الذي أبرمته اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع معهد لوزان للبوليتكنيك، والقاضي بإطلاق مشاريع بحثية في مختبرات المعهد لتطوير مشاريع تستهدف ضحايا الألغام بالعالم عبر طرح نماذج جديدة للأرجل والأيادي الاصطناعية les prothèses، وهو مشروع يسيل لعاب الشركات السويسرية لأنه يهم سوقا يضم 300 ألف ضحية بالعالم (خاصة بآسيا وإفريقيا جنوب الصحراء).
والمثير أن مقر منظمة نزع الأسلحة يوجد على بعد أمتار قليلة من مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والتي بدل أن يتوجه رئيسها (بيتر مورير) إلى معهد لوزان لتسويق صورة عن سويسرا «الإنسانية»، كان عليه أن يضغط على الدول الغربية المصنعة للألغام وباقي الأسلحة المحظورة لكي لا تنتجها وتسوقها، بدل أن يبني مجد الاقتصاد السويسري على جثث ضحايا العالم الثالث.
أبعد من كل هذا يحق للنخب العالمثالثية أن تبالغ في «أسطرة» و«تأليه» السويسريين؟!