السبت 18 مايو 2024
مجتمع

الحرارة تذيب ما تبقى من صبر نساء ورجال "الموقف"

 
 
الحرارة تذيب ما تبقى من صبر نساء ورجال "الموقف"

هم رجال ونساء شاء القدر أن يقضون ثلثا يومهم على جنبات الشوارع والطرقات سعيا وراء الكسب الحلال، بعد أن تعذر عليهم ولأسباب متفاوتة الظروف ضمان مصدر  للرزق بأكثر عائد مادي وحفظ معنوي لكرامتهم. خاصة في ظل ما يفضون به من معاناة وأسرار تُجمع على تعرضهم لمختلف أنواع الإهانة المباشرة وغير المباشرة، مع ما تعكسه من تبخيس لدروهم الاجتماعي والاقتصادي من جهة، وطعن في أحقيتهم بشتى شروط العيش الكريم من جهة ثانية، زادتها الحرارة المفرطة قسوة على قساوة. مما يفقد هذه الفئة أيَّ إحساس بتأمين مستقبلهم وإن على المدى القريب فبالأحرى البعيد طالما أن كسب قوتهم متوقف على سلامة عطائهم البدني، وأن أي خلل أو عجز في هذا الأخير معناه الانقطاع الصريح عن مظاهر الحياة والانتظار الحتمي للموت البطئ الذي يبقى مصير النسبة العالية منهم. لأجل إماطة اللثام عما يخفيه "اصحاب الموقف" وراء عيونهم المتعقبة لأي زبون محتمل، وتبليغ أصواتهم الغارقة في ترديد عبارات الاستنكار، اقتربت "أنفاس بريس" من هواجس هؤلاء لتلتقي مجموعة ممن يعيشون أو يعشن ذات الواقع ويأملون بأي حال من الأحوال في تغييره للأفضل..

"صبانات" ينشرن غسيلهن على حبل المعاناة

بوجهها الأسمر بفعل لفحات الشمس، وجبين بللت خريطة تجاعيده بعض قطرات مطر نهاية الأسبوع الأخير. انزوت السعدية ذات الخمسة والأربعين سنة في ركن بعيد عن زميلاتها "الصبانات"، وهي التي كانت حسب قولها العنصر الذي يرجى مجيئه ليشكل حلقة "النشاط" المفعم بمرح روحها المراكشية. انقضت سنين "العز"، تضيف السعدية، وأخفت وراءها كل أسباب الرغبة في الاندماج، وإلا كيف يمكن تصور الحالة النفسية لامرأة التحقت ب"الموقف" على الساعة السابعة والنصف صباحا ومازالت إلى حدود الساعة الواحدة إلا الربع تنتظر الزبون الذي قد يأتي أو لا يأتي. بالتأكيد، تتحسر المتحدثة، ستكون نفسية متذمرة وغير مستعدة إلا للقفز نحو أي سيارة توقفت بالقرب منها أو على الأقل أبطأت سرعتها أملا في تلقي استجابة من هذا أو ذاك. قالت السعدية كل هذا الكلام وهي تجلس القرفصاء، باسطة يديها المخططتين بالتجاعيد على ركبتيها، أما عيناها فكانتا من حين لآخر تجوبان شارع الحزام الكبير بالدار البيضاء ذهابا وإيابا، بعد أن أخبرتنا في بداية اللقاء بإمكانية توديعنا في أي لحظة تلمح فيها فرصة تحصيل قوت يومها. ولما سألناها عن قيمة هذا المقابل أبدت ابتسامة محتشمة وقالت: "في غالب الأحيان أحصل على مبلغ مائة درهم. لكن وكما يتفهم بعض الناس ظروف حياتنا ويضيف إلى ما اتفقنا عليه بعض الدراهم، فإن هناك من لا يهزه ما نبذله من مجهود ويصر على تكريس مأساتنا بعدم تأدية مجرد مائة درهم كاملة.

عبد القادر بكوش "تيكر"، صباغ وقيدوم حرفيي مُوقف 6 نونبر

واقعنا يفرض أن نظل نعمل إلى أن نُحمل في النعش

نحن وبدون شك فئة مهمشة ومحتقرة ولا نلقى سوى اللامبالاة. نقدم الشيء الكثير للمجتمع ومع ذلك نُطعن كل يوم في كرامتنا. وبحسب تجربتي بهذا المكان لما يزيد عن 40 سنة أستطيع أن أؤكد بأن لطف الله هو الوحيد الذي يضمن استمرار هؤلاء المواقفية في الحياة. لأن لا شيء قُدم لنا من الجهات المعنية وظل وضعنا على حاله نواجه واقعنا بشكل لحظي وكل المؤشرات تفرض أن نظل نعمل إلى أن ينقضي العمر، طالما أن لا نصيب لنا في التقاعد ولا في من يرحم سننا المتقدم. فشخصيا أحمد الله الذي وهبني هذه القدرة على الالتحاق بالموقف إلى حدود الساعة وإن كنت قد تجاوزت سن السبعين. لكن ماذا عمَّن حُرموا هذه النعمة. هل نحكم عليهم بالإقصاء الكلي؟ أم نقدمهم قربانا للموت البطيء؟. وفي كل الأحوال ليس بوسعنا سوى تجديد ندائنا الذي لم يسعف تكراره تلقي رد له لحد الآن، والمتمثل في إعارة التفاتة حقيقية لهؤلاء الضعفاء وإشعارهم بأن لديهم وجود. ليس بالكلام الذي ألِفوا عدمية جدواه كما حدث مرارا مع مسألة تنظيم القطاع، ولكن من خلال حلول واقعية وملموسة. فلا يعقل أن نكون بشر ونظل نشتغل في ظروف لا إنسانية. وبإطلالة على هذا الموقف ستجد كل المهن والحرف، من البلومبي إلى الصباغ إلى البناء إلى الكهربائي. لكن الجميع بدون استفادة من يوم عطلة مخافة الجوع، ولا بتغطية صحي.

المعطي، بلومبي

لا نجني سوى "ضربات الشمس" وقلة الاعتبار

"حالتنا ماكتبشرش بالخير وهاد الحرفة ما بقى كيجي منها غير تمارة بلا فلوس". بحيث نعود في غالب الأحيان إلى بيوتنا نهاية اليوم خاويي الوفاض، وكل ما نجنيه هو العياء ومتاعب قسوة الظروف المادية والجوية، إلى درجة أصبح معها هذا الوضع طقسا من طقوسنا اليومية. حقيقة لا أنكر بأن هذا الفضاء مكنني كما الكثير غيري من فرص تنشئة أبنائي وتوفير لهم الحد الأدنى من متطلباتهم الضرورية، لكن ومع تغير الأوضاع وارتفاع أسعار المعيشة صرت أجد صعوبة كبيرة في تلبية حاجياتي أولا. ومع كل أسف فإن الأمور تزداد سوءا يوما بعد يوم في ظل الإهمال الذي نعانيه من لدن المسؤولين وكأننا لا ندخل في إطار المواطنين المغاربة المحفوظ لهم حق العيش الكريم. إلى جات الشمس كتضربنا وإلى جات الشتا كتكرفصنا. وإذا ما مرض أحدنا كان الجوع والتشرد مصيره ومصير عائلته.