الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: بريطانيا إلى النادي العربي

دلال البزري: بريطانيا إلى النادي العربي

ثلاث كلمات تلخّص الهدف من قيام الوحدة الأوروبية: الازدهار، السلام، التضامن. ثلاث كلمات تختصر الدروس التي خرجت منها أوروبا بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية: من أنها لن تعيد الكرة، لن تتسبّب بنزاعات في ما بينها، وسوف تكون كل دولة عضو فيها متضامنة مع أعضائها الباقين. وبعد سقوط حائط برلين، توسعت أوروبا هذه، والتحقت بها معظم دول أوروبا الشرقية والوسطى، وليصبح عددها 28 دولة يضمها الاتحاد الأوروبي في مؤسساته وبرلمانه. ومع ذلك، بريطانيا العظمى عوملت بطريقة خاصة. هي الأقوى والأغنى والأعرق، أُعفيت من العملة الموحَّدة، اليورو، ومن الحدود الواحدة، المعروفة باتفاقية "شنغن". ومع ذلك، صوّتت بريطانيا للخروج من تلك التي كان يعِد مؤسسوها بأنها سوف تكون بمثابة "الجنّة على الأرض".

والواقع أن دوافع هذا الرفض أعمق من النوايا الديموقراطية أو الحضرية. الوحدة الأوروبية شقّت طريقها نحو العولمة. فكان جنون  أسواقها، والأزمات الاقتصادية المتوالية، وارتفاع نسبة البطالة، فضلا عن التقشّف الذي لم يفضِ إلى أي تحسن في الاقتصاد... العولمة التي وحّدت أسواق الكرة الأرضية، لم تتمكن من توحيد البشر؛ إنما بالعكس تماما، خلقت عندهم الريبة من الآخر، والبؤس وانعدام الثقة تجاه المؤسسات والأحزاب، وكل أفرقاء "الإستبلشْمنْت" السياسي أو الاقتصادي.

سهّل هذا التوحش الاقتصادي الجديد سقوط الاتحاد السوفياتي: تلك الكتلة القوية، التي، على الرغم من كل عيوبها، كانت عينا تراقب الجشع الرأسمالي، وتلاعبات البورصة وكل أنواع الربح الاستغلالي... فما كان من البائسين، قليلي الحظ من هذا النظام الاقتصادي إلا أن لجأوا إلى هويتهم الضيقة، كإطار يصيغ معنى بؤسهم ويفسره. المتضررون الإنكليز من هذا النظام المربوط بنظام الاتحاد الأوروبي، يقولون إن العمال البولنديين (900.000) يسرقون وظائفهم، وبأن انكلترا التي اخترعت الثورة الصناعية، والديمقراطية، وكانت إمبراطوريتها لا تغيب عنها الشمس، بريطانيا هذه يجب أن تعود إلى هويتها الأولى، لتستعيد الوظائف والازدهار، المبنيين على السيادة الوطنية والاستقلال بالقرار.

ومن المفارقات الساخرة أن كل هذه الادعاءات الإمبراطورية أوجدت "الفتنة" بين البريطانيين أنفسهم، حتى الذين ساروا بأحزابهم نحو هذا الموقف أو ذاك. الحزبان العريقان، العمالي والمحافظ، مهددان بالانقسام الداخلي، زعيما الحزبين مطلوب منهما الاستقالة؛ فالاثنان راهنا على نتيجة الاستفتاء، بـ "نعم"؛ "المحافظ "بقوة و"العمالي" بميوعة؛ والاثنان كان رهانهما خاسرا. الحزب الوحيد الذي حافظ على تماسكه، هو "حزب استقلال بريطانيا المتحدة"، اليميني المتطرف، وزعيمه نيغل بول فاراغ، الذي تأسس على أساس العداء لأوروبا والأجانب والإسلام.

هنا ليس الدين أو المذهب هو المشكِّل للهوية الضيقة، كما هو حاصل في ربوعنا. إنما هي الهوية القومية ذات التاريخ الإمبراطوري العظيم. قومية شوفينية مثل تلك التي يفرِّخها العالم اليوم، كل بحسب مستواه الحضاري. ولكن مع الفرق هنا، أن انكلترا بعودتها إلى نفسها، إلى هويتها الضيقة، لن تبقَى بريطانيا العظمى. قرارها بالخروج من أوروبا قد يكون ثمنه خسارتها لأسكتلندا وإيرلندا الشمالية، ومعهما ربما العاصمة لندن، الكوزموبوليتية، الوحيدة التي أشبعت تنوعاً، فاستفادت معظم فئاتها الاجتماعية من هذا التنوّع.

المهم كان بالنسبة للكثيرين منا، هو ان البريطانيين قرروا بأنفسهم الخروج من أوروبا؛ باستفتاء ديمقراطي نزيه، كلنا يحسدهم عليه، ويبكي على حرماننا من تقرير مصيرنا بأيدينا. هذه نظرة محقة، لا ينقصها الصواب. ولكن، مع الفرحة بأنه ما زال هناك بشر يقررون، علينا أن نأسف أيضاً. صحيح أن البريطانيين ليسوا مثلنا مذهبيين، وتقوم هويتهم على قوميتهم. ولكن قرارهم ليس بشرى للبشرية، بل هو تعبير عارم عن الرغبة بالتقوقع والانفصال عن الآخر.

أدبيات "البركْزت"، أي خروج بريطانيا من أوروبا، تشبه كل ديماغوجيي الأرض، وشعوبييها، وقد صعد بعضهم إلى الخشبة الدولية، ويُنتظر منه المزيد من الصعود. أوروبا الواحدة كانت مثالنا، صخرتنا الفكرية. منبع الأنوار وحقوق الانسان. وعندما تتهاوى تحت ضربات اليمين المتطرف والليبرالية الاقتصادية المنفلتة من عقالها، تحرمنا من الكلمات التي يحتاجها وصفنا الجديد لأوضاعنا.

ولذلك نحزن مرتين: مرة لأننا ساهمنا، بحروبنا وإرهابنا بتسريع التفكّك الأوروبي، وثانياً لأننا كنا السباقين في تكسير كياناتنا، التي لم تكن أصلا واحدة ولا موحدة، وفي خلق مشاريع هويتية، كلها طاحنة، مغرورة، شقية وكارهة.

أول الغيث، أولئك البريطانيين الذين راحوا، في اليوم الثاني من تصويتهم على خروجهم من أوروبا، يتحرّشون بـ "الغرباء"، بعنف وحقد.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)