يبدو أن صعود التيارات المتطرفة والقومية لم يعد يقتصر على دولة أوربية فحسب، بل أصبح امتداد التطرف القومي يعم جميع جسد أوروبا ويكتسح مؤسساتها الدستورية من المفوضية السامية الأوروبية إلى البرلمان الأوروبي. لقد استطاعت الحركات القومية المتطرفة أن تجد لنفسها قدما في الأحزاب السياسية اليمينية العنصرية المتشددة بدل من الاشتغال الجزئي والجانبي في شوارع أوروبا وأزقتها واحيائها. هكذا خرجت من الوضع اللاقانوني إلى الوضع القانوني المؤسس الممثل في حركات وأحزاب يمينية تخوض الانتخابات البرلمانية والجماعاتية. فدول أوروبا على اختلاف ماضيها وحاضرها أصبحت مسرحا لتنامي ظاهرة اليمين المتطرف. إذ أصبح البرلمان الأوروبي مقصدا لها وهدفا لإعادة النظر في جميع الملفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تهم الكيان الأوروبي..
اليمين المتطرف كمصطلح سياسي يطلق على التيارات والأحزاب السياسية لوصف موقعها ضمن محيطها السياسي. ويطلق المراقبون السياسيون هذا المصطلح على الكتل والأحزاب السياسية التي لا يمكن اعتبارها من ضمن جماعات اليمين السياسية التقليدية التي تدعو إلى حماية التقاليد والأعراف داخل المجتمع.. ويكمن الاختلاف بين جماعات اليمين التقليدية أو المعتدلة وبين المتطرفة، أن الأخيرة تدعو إلى التدخل القسري واستخدام العنف واستعمال السلاح لفرض التقاليد والقيم.
قبل مباشرة هدفنا من المقال لا بد من الإشارة السريعة إلى الأسباب الموضوعية والمادية التي ساهمت في تنامي الخطاب القومي المتطرف في أوروبا وكذا مؤسسته على نحو أحزاب يمينية متطرفة وقومية تدعو إلى أوروبا الجديدة. من أهم الأسباب التي أدت بشكل كبير إلى ظهور هذه الحركات وتنامي الخطاب المتطرف القومي، نجد ظهور مجموعة من الدويلات التي التفتت إلى أصولها القومية والعرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كما أن انتشار البطالة في أوروبا والركود الاقتصادي الذي تفرضه بين الفينة والأخرى الأزمات الاقتصادية، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية العالمية التي جعلت الأوروبيين ينظرون بعين الريبة إلى الأجانب الذين يرون فيهم مزاحمين لهم على الوظائف وخاصة المسلمين منهم... وانطلاقا من هذا ظهرت دعوات إلى كبح الهجرة والتضييق على المهاجرين بل أصبحت ردود الأفعال العدوانية اتجاه المسلمين والمهاجرين برنامجا انتخابيا لدى بعض الأحزاب القومية المتطرفة.
وجدت الحركات المتطرفة القومية لنفسها أسبابا لتنامي وانتشار خطابها السياسي العنصري، فاصطف أنصارها في أحزاب سياسية يمينية، فبدأت تخوض معارك الانتخابات ببرامج عنصرية متطرفة لفرض رؤيتها السياسية الجديدة في المؤسسات الدستورية الأوربية. هكذا استطاع حزب فلامس ببلانغ اليمين الشعبي والعنصري أن يفرض نفسه في المشهد السياسي البلجيكي، كما تمكن الحزب اليميني الشعبوي برئاسة خيرت فليدوز من فرض نفسه في المشهد السياسي الهولندي، أما ألمانيا فقد اجتاحها الحزب اليميني المتطرف، كما اجتاحت الأحزاب القومية كل من النمسا والسويد وأنجلترا ومعظم دول أوروبا...
إن النتائج المباشرة لتنامي هذه الحركات القومية المتطرفة تتجلى في الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بسبب سياستها من موضوع الهجرة، وكذا السياسية الاقتصادية.. الأحزاب اليمينية المتطرفة تعتبر أن منظمة الاتحاد الأوروبي هي السبب في ما يعانيه الإنسان الأوروبي من بطالة وأزمات اقتصادية وأعمال إرهابية التي غالبا ما تورط فيها إسلاميون متشددون... تنامى خطاب الانفصال من الاتحاد الأوروبي عند الحركات اليمينية المتطرفة.. هكذا تمكن اليسار الراديكالي واليمين المتطرف وبعض أنصار الحزب الحاكم من إخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يوم 23 من الشهر الجاري بحجة أن الاتحاد الأوروبي لا يصب في مصلحة المواطنين الإنجليز، وكذا اتهام الاتحاد الأوروبي بتشجيع سياسة الهجرة، وبالتالي منافسة أهل الأرض والدولة على مناصب الشغل والمبادرات الفردية في العيش الكريم.
الحركات المتطرفة واليمين المتطرف في فرنسا تبنى نفس الأسلوب ودعا مباشرة إلى انسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبي.. هكذا ومن خلال استطلاع الرأي عند الفرنسيين، أجرته جريدة "لوفيغارو"، أن 33 في المائة من مجموع ساكنة فرنسا ترغب في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، بينما يحبذ 45 في المائة البقاء في الاتحاد الأوروبي.. ويبقى موقف فرنسا من الانسحاب أو البقاء رهين بـ 22 في المائة رفضت أن تعبر عن موقفها، وفي حالة تقرير إجراء استفتاء على شاكلة المملكة المتحدة سوف تحدد نسبة 22 في المائة الموقف الرسمي للشعب الفرنسي من الانسحاب أو البقاء.. خطاب الجبهة الوطنية بزعامة ماري لوبين الداعي إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وكذا حزب اليمين الألماني والحزب الوطني البريطاني وحزب المصلحة الفلامنكية... وكثير من الحركات المتطرفة التي تبنت خطاب الحركات المتطرفة الإنجليزية في الخروج من الاتحاد الأوروبي، أصبح خطابها أو الخطاب الداعي إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، هو السائد، وما مقتل النائبة البرلمانية جو كوكس إلا دليلا قاطعا على هذا المطلب الجديد للحركات القومية المتطرفة.. ويمكن أن نعتبر وصول السيد نوربرت رئيس حزب اليمين المتطرف في النمسا إلى سدة الحكم إلا عنصرا جديدا في تبني الحركات القومية المتطرفة في أوروبا لفكرة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي..
فإلى أي حد سوف يقاوم اليمين الأوروبي المعتدل هذه الموجة العنصرية الجديدة الداعية إلى حل الاتحاد الأوروبي.