عندما تم الإعلان عن تأسيس مؤسسة المشروع للتفكير والتكوين في رحاب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية توسم الرأي العام الخير في المولود الجديد، بالنظر إلى جذور الفكرة التي تستلهم تجربة مجلة «المشروع» التي أسسها نفس الحزب في بداية ثمانينيات القرن الماضي لتشكل رافدا من روافد اليسار المدافع عن دمقرطة الدولة وعن تحديث المجتمع. وتم توسم الخير أيضا لما برز كنوع من يقظة الضمير الاتحادي لإدماج الفكر والمفكرين في واقع الصراع المجتمعي الحاد الذي تشهده بلادنا اليوم على خلفية تنامي موجات الارتداد والنكوص وتصاعد المد الظلامي «الطالباني والداعشاني».
إلا أن الرأي العام سيصاب، مع مطلع رمضان الحالي، بصدمة «المشروع الجديد» إثر استدعاء قيادته لعبد الإله بنكيران يوم السبت 11 يونيو 2016 ضمن ما تسميه «المؤانسات» الفكرية والسياسية الخاصة بهذا الشهر الفضيل. وبغض النظر عن تفاعلات الموضوع إثر رفض قطاع من الاتحاديين للمبادرة، واحتجاج بعضهم أمام مقر حزب الاتحاد بأكدال بالرباط، الذي كان رمزيا الشاهد على جزء من تطورات ونضالات ذلك الحزب، وبغض النظر عن وقائع الاحتكاك التي جرت بعد استدعاء رجال الأمن الخاص والعمومي من أجل إدخال بنكيران غير المرغوب فيه إلى المقر بالقوة، تبرز رسائل بليغة لواقعة أكدال.
الرسالة الأولى تفيد أن مؤانسات «المشروع الجديد» تفترض أن تنعقد في حضرة المفكرين الكبار من العيار الثقيل الذين يضعون مسافة مع السياسة المباشرة ليضيئوا مسارب السياسة العميقة بالأفكار والاجتهادات وتلاقح المرجعيات كما كان يتم ذلك مع محمد عابد الجابري ومحمد جسوس رحمهما الله، ومع عبد الله العروي وآخرين من نفس العيار، لا مع رجل أعطى الدليل، طوال مدة مسؤوليته على رأس «البيجيدي»، ومدة ولايته كرئيس الحكومة، على أنه «يبهدل» السياسة وينزلها إلى الدرك الأسفل، ويرسل خطابات تشتم الماضي والمستقبل وتهين النواب والنخبة ورجال الفكر والإعلام، ويصعد من منسوب اليأس لدى المواطنين. فأية مؤانسات مع رجل من هذه الطينة؟ وما الذي ننتظره من بنكيران الذي لوث لسانه وفكره بشطحات صبيانية لا علاقة لها بالعقلانية والحكمة والرزانة؟
وحتى لو افترضنا جدلا أن دعوة الرجل كانت فقط لمساءلته جديا في قضايا الساعة، بحكم موقعه الحزبي والحكومي، فهل تستوي المساءلة مع طرف لا يعترف بالمساءلات، وبحوار الأفكار وبالرأي والرأي الآخر؟ ولو كان لعبد الإله بنكيران ذلك لأجراه تحت قبة البرلمان، ولأجراه مع ممثلي الشغيلة والجمعيات، ومع التعبيرات الاحتجاجية المرابضة يوميا في شوارع المغرب. وللمقارنة: هل يعقل أن يتناظر الديمقراطيون الألمان مع قادة «بيغيدا» النازيين الجدد؟ وهل يعقل أن تجلس هيلاري كلينتون، باسم الحزب الديمقراطي الأمريكي للمؤانسة مع جماعة «الكوكسكلان» العنصرية، وهل يستساغ أن نرى الحزب الديمقراطي الياباني يتناظر فكريا مع جماعة «أوم شينريكيو» «Aum Shinrikyo»؟
الرسالة الثانية تفيد أن أصحاب «المشروع الجديد» أبانوا عن أنهم يشتغلون بالفكر من أجل السياسة في بعدها الانتخابي. في هذا الإطار يتأكد أن حزب الاتحاد الاشتراكي، من خلال ذراعه الجديدة، يريد استنساخ تجربة نبيل بنعبد الله زعيم «الحزب الشيوعي الإسلامي!» لعقد صفقة مشبوهة مع حزب بنكيران الأصولي في أفق خلق حزب «الاتحاد الاشتراكي الإخواني»، ذلك أن واقعة أكدال تبرز أن ما تبقى من الاتحاد قد أشهر التوبة تحت أقدام عبد الإله بنكيران. والأخطر في الصفقة أنها تقوم على مقايضة يقوم بموجبها الاتحاد بعملية «تجيير» (صباغة) انتخابي لفائدة بنكيران، حيث عاينا كيف وافق هذا الأخير على مبدأ تخفيض العتبة من 6 إلى 3 في المائة كي لا ينقرض حزب المهدي وعمر من سوق التدافع الانتخابي القادم، ومقابل ذلك رد له هذا الأخير الجميل بمبايعته علنا بساحة «شاتوبريان» بالرباط في مشهد طافح بالإذلال الإديولوجي.
أما الرسالة الثالثة المترتبة عما سبق فتفيد أننا صرنا أمام معطى خطير، حيث لم يعد هناك مبرر لمطالبة الدولة بمقاومة الزحف الأصولي ببلادنا. ولذلك نعتبر واقعة أكدال مؤامرة للتخطيط للانقلاب الناعم على إمارة المؤمنين وإفراغها من محتواها للتمكين للخوارج الجدد بفرض تصورهم القائم على التحكم والتسلط، خاصة وأن بنكيران لا يشتغل إلا بعقلية الشرق القائمة على الحسم بلغة الدم والسحل. إذ بعد استقالة الأحزاب التقدمية والوطنية والنقابات والزوايا والجمعيات وزوال كل المقاومات سيصبح هؤلاء الأصوليين (أوالطالبان الجدد) وجها لوجه أمام إمارة المؤمنين بهدف إفراغها من مضمونها الديني الوحدوي التوافقي كهدف أول، ودفعها إلى التواري إلى الخلف ليحتل الأصوليون المغرب، وليسطوا على تاريخه بما يمثله من تعدد وتنوع داخل الوحدة، ومن قيم الوسطية والاعتدال كهدف استراتيجي بغية إقامة مغرب غريب عن المغاربة، ذا طابع شمولي تكون فيه الكلمة الأولى والأخيرة لدعاة التمكين تكريسا لـ«دعشنة» لا تختلف في شيء عن «دعشنة» خلافة «سيدنا» أبي بكر البغدادي.
لكل هذه الاعتبارات كذلك يحق لنا أن نعلن بعد اغتيال العقل الاتحادي، وبعد صفقة الاتحاد و«البيجيدي»، أن صفحة التدافع الفكري والقيمي قد طويت وأقفلت وبأن صفحة الإذلال الإديولوجي قد فتحت. كما يحق لنا أن نعلن أننا نزلنا إلى هاوية الفكر والسياسة، وأننا نتصور على ضوء ذلك أن استحقاق السابع من أكتوبر 2016 لن يكون سوى حلقة جديدة من موت السياسة بمعناها التعاقدي، وبما يمكن أن تبثه من آمال لدى المواطن المغربي بعد أن صارت التحالفات لا تتم بناء على صراع الأفكار والبرامج والاصطفافات النبيلة، ولكنها صارت لعبة قذرة ووسخة من أجل زبونية المقاعد والامتيازات.
اليوم، يحق لنا أن نضع أيدينا على قلوبنا أسفا على ما آل إليه واقع الساسة والسياسة من صفاقة وابتذال ونخاسة وعمليات رخيصة للبيع والرهن والشراء.
اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه!!