الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

الصادق العثماني:في ظل الزحف التكفيري والإرهابي.. ما أحوج شبابنا إلى محاضن الزوايا الصوفية

الصادق العثماني:في ظل الزحف التكفيري والإرهابي.. ما أحوج شبابنا إلى محاضن الزوايا الصوفية
إن الزوايا في التاريخ الإسلامي عامة، وفي الغرب الإسلامي والمغرب خاصة، لعبت أدوارا تربوية طلائعية مهمة في الحفاظ على الشخصية المغربية إبان الاستعمار وقبله وبعده، ووقفت في وجه الزحف التغريبي الذي حاول بكل الأساليب أن يطمس هذه الشخصية المستمدة جذورها من الثقافة الأمازيغية والعربية والدين الاسلامي الحنيف، وشيوخها كانوا دائما في طليعة الإصلاح السياسي والتعليمي والتربوي والاجتماعي عموما، ووقفاتهم الشجاعة والإيجابية في كثير من محطات تاريخنا المغربي يشفع لهم بنبل مقصدهم ودورهم الفعال في صياغة الشخصية المغربية المستقلة عن الشرق والغرب.
كما أن بفضل شيوخ هذه الزوايا ووعيهم ورصانتهم وحكمتهم وحنكتهم في تسيير الأمور، استطاعت ان تقف في وجه بعض التيارات الهدامة الوافدة التي ارادت أن تبث الفتنة والمذهبية في المجتمع المغربي عبر "أيديولوجيات" وعقائد لا تتماشى والإسلام المغربي وخصوصياته المتجليه في إمارة المؤمنين، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني وفقه مالك رحمه الله تعالى، ولعل أهم دور قامت به الزاويا المغربية منذ نشأتها الأولى حتى يوم الناس هذا هو توفير الطعام والمأوى لعابري السبيل والمحتاجين من الفقراء واليتامى والمساكين، وطلبة العلم، بالإضافة إلى تزويج العزاب والصلح بين الناس، والسعي في قضاء حوائجهم، والسهر على تحفيظ كتاب الله تعالى وتسيير حلقات العلم؛ لهذا تخرج منها آلاف مؤلفة من الحفاظ والقراء وعلماء وزعماء وفلاسفة وأدباء كبار عجزت الجامعات الإسلامية المعاصرة اليوم أن تجود بمثلهم..!!
كما حمت وحافظت على ثقافة المغرب وخصوصياته الاجتماعية من خلال مظاهر العمران، واللباس والمأكل والمشرب والتعامل والضيافة والإكرام.. ناهيك عن الحفاظ عن بيضة الإسلام وإبراز وسطيته واعتداله ورحمته وسماحته، والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولولا هذه الزوايا لما كانت قد عرفت افريقيا الإسلام 
ونور القرآن، وبهذا المنهج التربوي الصوفي الوسطي كان للزاوية التجانية أثر دعوي وسياسي حاسم في كل إفريقيا، حيث بلغ عدد أتباعها في نيجيريا لوحدها عشرة ملايين نسمة، مما دفع المستشرق "بوني موري" للقول بأنه كان من شأن الإسلام أن يغزو كل إفريقيا لولا الضربة التي أنزلتها فرنسا بالطريقة التجانية، وشبه الضربة الفرنسية للتجانيين بمعركة بلاط الشهداء التي أوقفت المد الإسلامي بأوربا، وفي هذا السيق نجد كذلك الزاوية البودشيشية المغربية الذي حققت نجاحات باهرة في استقطاب الشباب المسلم وأهل العلم والمثقفين من العرب والعجم، ومن مشارق الأرض ومغاربها، لخدمة الإسلام والمسلمين والإنسانية عموما، وبهذه الأعمال الجليلة اكتسبت الطريقة "البودشيشية " شهرة كبيرة -بعد أن انتقلت فروع القادرية إلى المملكة المغربية- وقد ظهرت هذه التسمية بالضبط في حياة الشيخ سيدي علي بن محمد، أحد أجداد الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيشي (الشيخ الحالي للطريقة أطال الله عمره)، وقد لقب هذا الجد بهذا اللقب؛ لأنه كان يطعم الناس طعام الدشيشة أيام المجاعة بزاويته، فاشتُهر بذلك، وعرفت الطريقة منذ ذلك الوقت بالطريقة القادرية البودشيشية. والدشيشة أكلة معروفة في المغرب، ويتم إعدادُها من الشعير بعد أن يتم طحنه وتحويله إلى حبات خشنة، وتعرف أيضًا باسم "البلبولة" وفي هذا السياق يقول ابن مرزوق في المسند الصحيح الحسن: "والظاهر أن الزوايا عندنا في المغرب هي الموضع المعد لإرفاق الواردين وإطعام المحتاج من القاصدين..". وهو نفس الدور الذي يشير إليه المقري حين يتحدث عن الزاوية المتوكلية بفاس قائلا:
هي ملجأ للواردين ومورد لابن السبيل وكل ركب ساري ** دار على الإحسان شيدت والتقى فجزاؤها الحسنى وعقبى الدار .
فشبابنا الإسلامي اليوم ما أحوجهم إلى الإلتحاق بالزوايا الصوفية وشيوخها، عوض التحاقهم بالجمعيات والمنظمات السرية والجماعات التكفيرية الجهادية الذين يجهلون الروح السمحة للإسلام ومقاصده النبيلة، كما يجهلون مكونات التصوف وسؤال الجمال في التراث الإسلامي عموما، ولم يفهموا من رسالة الإسلام الخالدة العظيمة - للأسف- سوى تطويل اللحية وتقصير الثياب واستعمال السواك والتكفير والتبديع والتفسيق والتفجير وقطع الأعناق وسفك الدماء باسم الله، والله برىء مما يصنعون.
وعليه أدعو أهل الحل والعقد والمجلس العلمي الأعلى في المغرب والرابطة المحمدية للعلماء ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية والمجالس العلمية في الجهات المختلفة ووزارة التربية والتعليم، وعمداء الجامعات إلى إعطاء الأولوية والصدارة لدراسة التصوف الإسلامي السني، وإدخاله كمادة أساسية تدرس في جامعاتنا، ومعاهدنا ومساجدنا وفي جميع مدارس التعليم الأصيل -التي أصبحت هذه الأيام تفرخ بعض المتنطعين-  لحل معضلات شباب أمتنا الإسلامية، وإنقاذهم من براكين الانحلال والمجون والحزبيات والمذهبيات والتكفير والتنطع في الدين؛ لأن التصوف في ماهيته وحقيقته هو العودة بالناس إلى جوهر الدين، والوصول بهم إلى مقام "الإحسان" ومعلوم أن هذا المقام محله الروح والقلب والنفس، فيحتاج إلى أهل الخبرة بهذا الفن وإلى مختصين به، من أجل بناء شخصية مسلمة متوازنة سوية تألف وتؤلف، وتوازن بين مطالب الدين والدنيا، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة، وعلى هذا الأساس اعتبر كبراء هذا العلم أن التصوف هو لب الدين وجوهره ولحمته، لما له من انسجام وكمال وإبداع في ربط الإنسان بربه عبر التزكية المخاطب بها كل مكلف عاقل، كما اعتبره الإمام الغزالي رحمه الله فرض عين؛ حيث قال :" الدخول مع الصوفية فرض عين إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" .