رمضان في المغرب، تلفزيونياً، هو شهر الترفيه بالدرجة الأولى. كأنّ الصائم، في عُرف أصحاب الأعمال التلفزيونية الكوميدية، يظلّ طول النهار متجهما، ويحتاج إلى مَن يدغدغه لكي يطلق القهقهات تلو القهقهات.
وإذا كان المثل العامي المغربي يفيد بأن «البطن حين تشبع تقول للرأس غنِّ»، فإن المنتجين التلفزيونيين المحظوظين الذين فازوا بـ"كعكة" رمضان هذا العام كباقي الأعوام السابقة، صاغوا على منوال ذلك المثل مقولة مشابهة، مؤداها أن بطن الصائم حين تشرع في التهام ما جادت به مائدة الإفطار، تقول لصاحبها «اضحك»! ولكنه ـ للأسف الشديد ـ ضحك كالبكاء، كما قال جدنا الأكبر أبي الطيب المتنبي غفر الله له؛ وذلك ناتج عن كون الأعمال التلفزيونية التي يُراد منها السخرية تتحول في الحقيقة إلى أداة للسخرية من المشاهدين المغاربة بـ:قفشات" وحوارات تجسد بؤسا في الإبداع وفقرا في الخيال.
ولسائلٍ أن يتساءل: مَن هو العبقري الفذّ الذي أفتى على أصحاب التلفزيونات المغربية بجعل رمضان ميدانا للتنافس الشرس على الكوميديا، بشكلها السمج؟ عوض تقديم أعمال درامية مستوحاة من التاريخ المغربي أو سلاسل وثائقية عن طبيعة البلد الغنّاء، وعن حضارته وتنوعه الاجتماعي والثقافي، انسجاماً مع خصوصية هذا الشهر الكريم.
المغرب ليس هو الدار البيضاء فقط!
من جهة أخرى، يلاحظ أن معظم الأعمال التلفزيونية المقدَّمة خلال رمضان الحالي تستعمل لغة عامية معينة، هي لغة سكان الدار البيضاء وضواحيها، فيغلب عليها القاموس «البيضاوي» الذي لا يوجد في مناطق أخرى، وتغلب عليها اللكنة «البيضاوية». كما أن الحوارات المعتمدة في تلك الأعمال تتضمن الإشارة إلى أماكن لا يعرفها جل المشاهدين المنتمين إلى مناطق أخرى. فعلى سبيل المثال فقط، نجد شخصية معينة في عمل تلفزيوني تخاطب شخصية أخرى مهددة إياها بـ «عكاشة»؛ وعكاشة هذا ليس هو السيناريست المصري الراحل أسامة أنور عكاشة، ولا مُواطنه الإعلامي والبرلماني توفيق عكاشة المُقال من البرلمان والتلفزيون معاً والملاحق بالدعاوى القضائية من كل حدب وصوب، كما أن الأمر لا يتعلق بالراحل مصطفى عكاشة الرئيس الأسبق لمجلس المستشارين في المغرب؛ ولكن «عكاشة» يطلق على سجن يوجد في مدينة الدار البيضاء، وهي تسمية قلّما يعرفها مَن ليس قاطناً في هذه المدينة.
إنه لأمر مستغرب أن تُغلَّـب اللهجة «البيضاوية» على باقي لهجات المغرب مترامي الأطراف، بينما يقع تغييب لهجات أهل الشمال والشرق والجنوب، والحال أن لكل واحدة منها لكنتها المحببة ومفرداتها المخصوصة، ولها جمهورها الذي يفضلها.
يحدث هذا، في وقت يردد فيه الكثير من السياسيين المغاربة، هذه الأيام، معزوفة «الجهوية المتقدمة» التي يقصدون بها تسيير أقاليم المغرب إدارياً ومؤسساتياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وفق تقسيم جغرافي ونظام أقرب ما يكون إلى الفيدرالي مثلما هو معمول به في عدد من البلدان الغربية. ولكن هذا التوجه الجهوي لا يمكنه أن يتحقق بأبعاده التنموية المنشودة، مادام هناك تمركز في عدد من المجالات، كالمجال الفني والإعلامي الذي يحاول فرض لهجة معينة على باقي اللهجات. فالمغرب ليس هو الدار البيضاء فقط؛ بل إنه فسيفساء متنوع. بيد أن الهيمنة «البيضاوية» على التلفزيون تُشعِر باقي المناطق البعيدة بكونها مهمشة إعلامية، ولا حظّ لها من الحضور في القنوات بثقافتها ولهجتها وتعبيراتها الجمالية المختلفة.
شبكات برامجية على مقاس المعلنين!
ثمة سمة أخرى مرتبطة بالقنوات المغربية خلال رمضان، وتتمثل في طغيان الإعلانات التجارية على المواد الإعلامية والفنية، حيث تصير البرامج التلفزيونية مجرد فقرات صغيرة جدا ضمن سيل عارم وجارف من الإعلانات التي تحمل في المغرب اسم «الإشهارات»، والتي تقصف الأعين والآذان بأصوات صاخبة وصور متلاحقة ومتعددة الألوان، تاركةً فجوات صغيرة جدا للأعمال الفنية؛ وكأن المعلنين يستغلّون تحلّق الأسر المغربية حول مائدة الإفطار الرمضانية المجاورة للتلفازات، فيسعون بكل الوسائل إلى إغراءهم من أجل الإقبال على منتجاتهم المختلفة.
المعلنون لا يرون في مشاهد التلفزيون سوى مشروع مستهلك، مغلوب على أمره، ولا يتركون له مجال الهروب من قناة محلية إلى أخرى، ما دام الإعلان يطارده خلال أوقات الذروة التلفزيونية، بشكل عنيف وعدواني. والواقع أن أولئك المعلنين بصنيعهم هذا، إنما ينفّرون المشاهدين من التلفزيون ومن منتجاتهم في الوقت نفسه، لأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما يقال.
والأدهى والأمر، هو أن المعلنين المغاربة يخططون لإضفاء الشرعية على أية خطوة يقومون بها لانتهاك حقوق المشاهد، حيث يرومون إنشاء لجنة داخلية (في ما بينهم) مهمتها الظاهرة الحفاظ على «أخلاقيات» الإعلانات التلفزيونية، والمضمرة قطع الطريق في وجه أية هيئة أخرى، سواء كانت تنتمي إلى المجتمع المدني أو إلى المؤسسات الرسمية، تهدف إلى مراقبة المواد الإعلانية التي تقدم في التلفزيون، من حيث شكلها ومحتواها ومدى احترامها للمشاهد، لاسيما وأن بعض الإعلانات تتضمن عدة تجاوزات من قبيل المساس بالجمهور الناشئ وبصورة المرأة وتقديم معطيات مغلوطة حول منتجات استهلاكية ما، علاوة على الخلط المتعمد بين الوظيفة الإعلامية للتلفزيون والعمل الإعلاني التجاري.
ومن فرط محاولة تحكم المعلنين في التلفزيون، يلاحظ أن الشبكة البرامجية أصبحت تخضع لأهوائهم وميولاتهم، عملاً بالمثل المصري المعروف «الجمهور عايز كده»، ومن ثم يقع تغليب كفة الترفيه المبتذل على التربية والتوعية والتثقيف، وتتراجع مقولة «الخدمة العمومية» المطلوبة في الإعلام السمعي البصري العمومي؛ وذلك في غفلة من الوزارة المعنية ومن الهيئة العليا للاتصال المعروفة اختصارا بـ»الهاكا»… وهكذا يؤدي المواطن المغلوب على أمره ثمن الوصلات الإعلانية في الفاتورة الشهرية للماء والكهرباء تحت يافطة «النهوض بالقطاع السمعي البصري الوطني»؛ وذلك مظهر من مظاهر الرأسمالية الجشعة والمتوحشة التي ابتلي بها المغرب منذ زمان.