يقول مطرب مسيحي، عُرف بفنه الملتزم بقضايا الأمة، وبهموم المواطن ومعاناته وبنقده للمسؤول وزلاّته، ولرجل الدّين وشطحاته؛ يقول هذا الفنان في إحدى أغنياته الممنوعة عنوة في الإعلام بشكل عام ما معناه: "الفقر كافر، والظلم كافر، والذل كافر، والمرض كافر؛ فما العمل إذا اجتمعت في المواطن كلّ هذه الأشياء الكافرة، يا مَن يخطب فينا يوم الجمعة، ويا من يعظُنا يوم الأحد؟!".. وهو يعني الخطيب في المسجد، والراهب في الكنيسة، بعبارة أوضح، وبصيغة أفصح.. يجرّنا هذا للحديث عن خطبة الجمعة 29 أبريل المنصرم، التي تُليت في كافة مساجد المملكة، والتي صاغها أحد الكتبة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والتي كانت أقرب إلى الإنشاء المدرسي منها إلى خطبة دينية ملتزمة وصادقة، ويبدو أن كاتبها لا يعاني من أي خصاص ولا يعي حقيقة ما يعتمل داخل أمّتنا؛ وهكذا تلاها الخطباء على عجل ثم ذهب اللّحاف وانتهى الخلاف.
تذكّرني هذه الخطبة، بما كان يُتلى في الكنائس، في أوروبا خلال القرون الوسطى المظلمة، حيث كان رجال الدّين يوصون البسطاء والفقراء بالصبر، احتراما للقسْمة الإلهية التي أتخمت هذا، وحرمت ذاك، وحاشا ذلك؛ ثم كانوا يُبْغِلون المسحوقين "بأن من أراد الملكوت، فخُبزُ الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثيرٌ عليه": إنجيل "مرْقُس" من [10 إلى 22].. هذا يشبه تماما مضمون هذه الخطبة الموحّدة، التي تحثّ الناس على الصبر، بعد تزايد أعداد المنتحرين، الذين يحرقون أجسادهم في عهد صاحب "الدعوة إلى الله"؛ وبدلا من أن تتوجه الخطبة إلى "بنكيران"، وإلى وزير كذا، وإلى وزيرة كيت، قائلةً لهم "اِتّقوا الله في هذه الأمّة"، توجّهت عكس ذلك إلى أمة، صبرت حتى ضاق من صبرها الصبرُ، طالبةً منها المزيد من الصبر، ومبررةً ذلك بالدّين، فيما الدّين جاء كثورة على الفقر، والشطط، والغنى الفاحش على حساب المسحوقين؛ والدين ليس أداة تنويم، أو مادة أفيون؛ بل هو وسيلة توعية وتنوير، وصدق المفكّر الفرنسي الملحد "أندريه مالرو" حين قال: "الشعب يقتات بالخبز، وليس بالكلمات".. سوف يقول لي الشيخ: "كيف يكون الملحد مثلاً لك؛ اِتّق الله يا هذا؟!"..
نعم يا سيدنا الشيخ، أنت على حق! لكن ماذا تقول في قولة سيدي وسيدك "أبو ذرّ الغفاري" رضي الله عنه، الذي وصفه النبي الكريم بصدْق اللهجة، حين قال ما هو أصدق وأبلغ ممّا قاله ذلك الملحد، أو ذاك المغني المسيحي؟ لقد قال سيدُنا "أبو ذرّ": "عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه؟!"؛ والمسحوق البائس في بلادنا قتل نفسَه فقط، ولم يشهر سيفه في وجه أحد.. دخل سيدُنا "أبو ذر الغفاري" رضي الله عنه، وصحب معه أناسا فقراء مدقعين، بأجساد نحيلة ترثي وهي عيدان بسبب الجوع والحرمان، على "معاوية بن أبي سفيان" في الشام وقال له: "أبهذا أوصانا رسولُ الله؟ اُنظر إلى هؤلاء، ثم انظرْ إلى هؤلاء بجانبك لترى الفرق"؛ وكان مَن هم بجانب "معاوية" يشبِهون "بنكيران" ببطون شبعانة، وجيوب مليانة؛ وهكذا لم يأمر "أبو ذر" المسحوقين بالصبر؛ بل توجّه مباشرة نحو أصحاب الأمر.. فحتى هؤلاء الخطباء، تجد منهم مَن له أربع أو خمس وظائف، تذر عليه مالا وفيرا؛ فقد تجده خطيبا، وعضوا في المجلس العلمي، وأستاذا في المعهد الديني، إلى جانب كونه أستاذا في مدرسة أو عدلا، وقس على ذلك؛ ونحن نعرف بعضا من هؤلاء الذين يأمرون الجوعى بالصبر.
فالصبر أمرٌ مطلوب هذا مؤكد، يعني الصبر على ابتلاء الله لعبده كالمرض مثلا، والموت باعتباره قضاء الله؛ لكن هل يجوز الصبر على فقر سببُه التبذير، وسوء التدبير، والتخوّض في مال الأمة بما لا يرضي الخالق والمخلوق؟ هل يجوز الصبر و"بنكيران" يزيد في أجور المتخمين، وينتقص من تعويضات المتقاعدين، ويزيد في أسعار قوت المواطنين، ويخصّص 30 مليارا للحملة الانتخابية، و370 مليارا لمحاربة الفساد الذي يزداد في عهده، ثم دعمٌ مالي لأحزاب غثائية، وجمعيات مشبوهة لا فائدة منها للوطن وقضاياه؛ ثم مستشفيات الكل يعرف ما يحدث بداخلها مما يندى له الجبين؛ ثم رواتب عالية تحظي بها الدناصير، ووزراء حكومة الأربعين، ثم شططٌ يلحق بالأساتذة المتدربين، ودعوى تُرفع ضد المعطلين، ووعود واهية تُلقى لليائسين، وأبواب توصَد أمام النقابيين، ثم آفاق قاتمة، وظروف مسودَّة، وسأم وقنوط أصاب النفس الصابرة، حتى ملّه الصبر نفسه، وتركها تهوي إلى هوة سحيقة لا بارقة من أمل فيها.. ثم لعلمك أنّ مَن أحرقوا أنفسَهم كان ذلك نتيجة ظلم أصابهم، وليس بسبب الفقر أصلا.. فبسبب هذا الإهمال، وبسبب غياب العدل، فشى الإرهاب، والجرائم، والدعارة، وقتْل الناس لأنفسهم.. فظاهرة إحراق المواطنين لأجسادهم، هي ظاهرة معبّرة عن واقع، يستلزم البحث المعمّق بدل الوعظ والإرشاد.