هل من المحتم أن يصاب شخصا ما بمرض عضال لكي يتحول إلى عبقري، هذا هو السؤال الذي تبادر إلى ذهني أول ما قرأت فيما أتذكر لسلامة موسى المفكر المصري الراحل كتاب رائع عنوانه "هؤلاء المرضى علموني ".
في دفتي الكتاب يعرض سلامة موسى بأسلوب مشَوق لحياة كل المفكرين والعلماء والمؤلفين العالميين الذين تتلمذ على أيديهم، من كارل ماركس وسيغموند فرويد إلى جورج برنارد شو وتشارلز داروين وفلاسفة عصور الأنوار الأوروبية، ليكشف لنا أن كلاً منهم كان يعاني إما من معضلات نفسية معقَدة أو من مشاكل صحية أثرَت على أنماط تفكيره ومع ذلك استطاعوا التغلب على الصعاب وبدل ان يقهرهم المرض روضوه فتسلقوا رغما عنه سلم المجد والعبقرية وبناء على ذلك طرح علينا المفكر استخلاصا لسرده سؤاله المثير للجدل "هل من الضروري أن يكون المرء مريضا كي يكون عبقري".
لكنني وجدت نفسي بعد قراءة ممعنة لم اقتنع بالفرضية رغم وجود أمثلة كثيرة لعباقرة أحياء في أيامنا هذه يعيدون تشكيل كل نظرتنا إلى العلم والحقيقة، فيما هم ضحايا أمراض مرعبة.
أحد هؤلاء هو البروفسور الأميركي جون ناش الذي يعتبر من أهم عباقرة الرياضيات في العصر الحديث، والذي طَور "نظرية اللعبة والتوازن" التي تفترض أن النظام الاجتماعي يمكن أن يتأسس على السعي العقلاني للأفراد إلى تحقيق المصالح الشخصية، قد أمضى هذا العبقري عشر سنوات كاملة في مستشفيات الأمراض العقلية بسبب إصابته بالشيزوفرانيا وهو انفصام الشخصية و هو كما هو معروف مرض عضوي لا علاج له. والأدوية والعقاقير التي تعطى لضحيته هدفها الوحيد وقف تدهور حالته العقلية إلى مزيد من الهلوسات. لكن الدكتور ناش استطاع ليس التغلب على الهلوسات والشخصيات الخيالية التي تظهر له فهذا مستحيل، بل التعايش معها بطريقة منعتها من شل قدراته العقلية. وهو بذلك نجح للمرة الأولى في تاريخ حالات الشيزوفرانيا أن يواصل نشاطه الذهني إلى درجة حصوله على جائزة نوبل للعلوم.
ثم هناك عبقري آخر قد يكون أهم بكثير. إنه البروفسور البريطاني ستيفن هاوكينغ، الذي يعتبر بحق خليفة ألبرت أينشتاين على عرش علم الفيزياء.
هاوكينغ أصيب وهو على مقاعد الدراسة بمرض عصبي نادر يدعى "لو غيهريغ" الذي يقتل ضحاياه خلال سنتين أو ثلاث. لكن قوة الإرادة الهائلة لديه جعلته يستمر في الحياة حتى بلغ الآن الخامسة والستين، برغم أنه مشلول بالكامل تقريباً ولا يتواصل مع الآخرين إلا عبر كومبيوتر حيث يتم قراءة ما يقول عبر حركات العينين فقط.
فأستطاع هاوكينغ وهو على هذه الحال أن يصبح الخبير العالمي الاول في مسألة »الثقوب السوداء، وهي أجرام فضائية غامضة تسحق جاذبيتها كلاً من النجوم الميتة، والزمان والمكان الذي يعود فيها إلى الوراء...
لا بل هو تزوج أيضاً مرتين وأصبح له أولاد وأحفاد، ووضع العديد من الكتب الباهرة أهمها "تاريخ موجز للزمن". لا بل أكثر: هاوكينغ يستعد الآن للقيام برحلة فضائية، يختبر خلالها حالة فقدان الوزن والجاذبية التي أمضى جل عمره في دراستها..
فكيف استطاع ناش وهاوكينغ القفز فوق هذه المعوقات المرعبة، التي كانت ستدفع كلمنا إلى الانتحار وتدمير الذات؟ ما هي تلك القوة الهائلة في أعماقهما التي تدفعهما إلى التمسك بالحياة على هذا النحو، وتفجر فيهما كل هذه الطاقات العبقرية؟ومن ذلك انطلق متسائلا هل شلل الجسد يطلق حرية الروح والعقل؟
لكن كل هذه الأمثلة لا تقودنا حتما إلى استنتاج أن سر العبقرية يكمن في مرض عضال و لو كان كذالك لما تحول كل المرضى من بني البشر إلى عباقرة ولا صبح المرض بل وكل عاهة مستديمة السبيل المنشود والمؤدي إلى العبقرية المطلقة الذي ينشدها كل إنسان طموحا ولاسيما أن العبقرية أصبحت تغدق هذه الأيام على المرء خلافا للماضي في زمن قياسي كل الامتيازات مع تدفق المال والشهرة والمجد بفضل تسليط الأضواء تم تبني الحكومات والقطاع العام لأفكارهم وتحويلها إلى مشاريع مربحة لكن الواقع يدحض مثل هذه الفرضيات التي لا تعبر عن منطق وحكمة بل في الحقيقة انه أن كانوا كل هؤلاء الأشخاص فعلا عباقرة فذلك يعود إلى أن شروط العبقرية الكامنة بداخلهم إلى جانب شخصيتهم المتفردة بخصال نادرة قلما نجدها مجتمعة في شخص واحد هي التي مكنتهم من التغلب على مرضهم و إعاقتهم ومن فوق ذلك الحفاظ على لياقتهم الذهنية بل و صقلها بشكل يفوق المعتاد من الطبيعة.
إذن السر في عبقريتهم يكمن ليس في المرض بذاته بل في شخصيتهم الفذة التي جعلتهم يقاومون ويتفوقون و السر كذلك في الإرادة الفولاذية والصبر والمثابرة كما التمسك بالحياة والإصرار المميت من اجل التغلب على كل العقبات مع عدم الرضوخ لواقع المسلمات الاجتماعية مهما كانت لان الإيمان بالمستحيل لهو ارفع دراجات الإيمان هذه باختصار ما يجب استنتاجه من هكذا أمثلة وليس العكس. حيث لولا تلك الخصال الكامنة في دواتهم لما استطاع هؤلاء العباقرة التغلب على المرض العضال الذي كان ينخر جسدهم ولما استطاعوا أن يتحولوا إلى عباقرة يعلمون اليوم البشرية جمعاء.