الاثنين 20 مايو 2024
سياسة

محمد ابن الأزرق: مؤسساتنا الرسمية عاجزة عن حماية التدين المغربي لاعتمادها على آليات تقليدية ولافتقارها للطاقات البشرية المؤهلة

 
 
محمد ابن الأزرق: مؤسساتنا الرسمية عاجزة عن حماية التدين المغربي لاعتمادها على آليات تقليدية ولافتقارها للطاقات البشرية المؤهلة

يشرح الأستاذ محمد بن الأزرق، خريج دار الحديث الحسنية وباحث في التراث الفقهي، الأسباب التي أدت إلى انحراف تأويل آيات قرآنية خاصة بالجهاد والسياسة والعلاقة مع الآخر. وتوقف بأسى عند مناهجنا التعليمية التي تقدس التراث بمآسيه وتحميه، وبالخصوص التيارات الدينية الشرقية التي تحاول الانتشار في العالم الإسلامي، والتي لم تستثن المغرب، كالوهابية والتشيع، تنطلق من كونها هي الصواب المطلق..

+ احتضنت مراكش منتدى حول الأقليات الدينية وهو اللقاء الذي تميز برسالة ملكية بينت أن الجهاد في الإسلام لم يشرع إلا للدفاع عن النفس. كيف تقرأ تباين التأويلات في تفسير النصوص الدينية؟

- إن التأويل الخاطئ لآيات القرآن الكريم هو ركيزة الانحراف الفقهي والفكري لدينا نحن المسلمين، لأن التأويل الشائع المعتمد منذ فجر تاريخ المسلمين تأويل مستند إلى الإسرائيليات من جهة، والروايات المكذوبة على نبي الله أو المحرّف من كلامه من ناحية، ثم هو تأويل متأثر بأوضاع المسلمين الأوائل سياسيا وعسكريا واجتماعيا... أي أنه تفسير وفهمه مرتبط بالأحداث والوقائع التاريخية، مساير لحالة الحرب والعداوة المستعرتين بين الفاتحين المسلمين وغيرهم، نابع من حال القوة والجبروت للإمبراطورية الإسلامية، فهو تفسير مشوّه لا ينطلق من سياق الآيات وموضعها من السورة خاصة ومن القرآن عامة، وهذا التأويل المنحرف طال بالأساس آيات الجهاد والسياسة والعلاقات مع الآخرين.

+ منذ وفاة الرسول (ص) سقطت الأمة الإسلامية رهينة بيد الخلافات المذهبية بين العلماء والسياسيين، وهو الخلاف الذي مازال يرهن ويعطل العالم الإسلامي إلى اليوم. كيف تفسر تمكن خلافات الفترة الأولى للإسلام وتأثيرها علينا إلى اليوم؟

- أود التصحيح أولا، فالخلاف كان بين علماء الشريعة من جهة، وبين بعضهم والسياسيين من جهة ثانية، وكان الخلاف بين الفقهاء يتحول أحيانا إلى خلاف سياسي وذلك عندما تميل السلطة إلى أحد الطرفين لاستمالته، فتعمد إلى التضييق على مخالفيه وخصومه، وهذا ما حصل في حق أوائل المعتزلة والشيعة وغيرهم، ثم جاء الدور بعد ذلك على الفقهاء والمحدثين فيما عرف بفتنة «خلق القرآن»، حيث مال الحكام إلى المعتزلة فاضطهدوا خصومهم انتقاما وعقابا، وفي تاريخنا صفحات سوداء من هذا اللون.

أما كيف تمكنت تلك الخلافات الأولى واستمر تأثيرها إلى اليوم، فإن أفكار العالم الواحد وآراءه تطورت وصارت مذهبا ومدرسة فقهية أو كلامية لها رموزها وقواعدها وكتبها المقرّرة، مما ضمن لها البقاء والاستمرار. ففي الفروع الفقهية هناك مدارس ومذاهب، وفي الأصول الاعتقادية أحزاب ومشارب، والخلاف بين تلك المذاهب والمشارب يشتد حينا ويخفت حينا ولا يزال.

ويبدو أن المناهج التعليمية في بلدان المسلمين حريصة على حماية ذلك التراث بفُرقته وخلافاته وعداواته التاريخية، وهكذا تستمر الأزمة الفكرية وتترسّخ.

+ تشهد العديد من الدول الإسلامية حاليا نقاشا حول تجديد الفكر الديني وفي نفس الوقت المطالبة بتجديد التأويل للنص الديني. هل أملت ذلك الحاجة لتطويق المد الداعشي الذي له تأويل خاص للقرآن والسنة أم هو استجابة لقوى عظمى ضغطت على الدول الإسلامية للتحرك لتجنيب البشرية فظاعات الإرهاب الديني؟

- أشير بداية إلى أنني من دعاة تجديد الفكر والتأويل، ومن ممارسي ذلك ومشجعيه، لكنني أرجو أن يتم ذلك بآليات التراث نفسه حتى يسرّع قبول الرأي العام له، فإنه "لا يحُكّ جلدَك مثلُ ظُفرك".

إن قواعد الفقه والفكر الإسلاميين ومبادئهما غاية في الروعة والقوة والعقلانية، وهي الأقدر على غربلة التراث وتجديده من أي منهجية جديدة، ذلك أن علماءنا أبدعوا تنظيرا وأتقنوا تقعيدا، لكنهم أساؤوا تنزيلا وتطبيقا وتفسيرا.

فمثلا، هناك قاعدة متفق عليها بين علماء الشريعة قاطبة تنصّ على أن كلّ حديث ينسب إلى رسول الله، ويروى بإسناد متصل خال من الرواة الضعفاء، ثم يناقض العقل والحسّ واليقينيات العلمية، باطل لا قيمة له، لأن النبيّ عليه السلام لا يمكن أن ينطق بذلك، فهو معصوم من كل ما يشكّك في نبوّته وكمال عقله.

ولو طبقنا هذه القاعدة على بعض الأحاديث المخرّجة في صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله، الذين كانا فقيهين لا خبرة لهما بحقائق العلم والحس والعقل، لوجدناها باطلة خرافية.

فالقاعدة منطقية عقلانية رائعة، لكن العلماء الذين أصّلوها كانوا أول من خرقها نظرا للمستوى المعرفي السائد في أزمنتهم، أو لأنهم كانوا يجهلون النتائج العلمية المشهورة بين المتخصصين.

وبالنسبة لأسباب الدعوات للتجديد ونقد التراث، فهي على المستوى الرسمي نابعة مما ذكرتم في سؤالكم، لأن حكوماتنا تفتقد الرؤى الاستراتيجية، وتنتهج سياسة تدبير الأزمات، وتتجاذبها الأحداث العالمية والإكراهات الدولية بدليل مناهجها التعليمية التي قلنا إنها تقدّس التراث بخلافاته ومآسيه، بل تحميه عبر المقرّرات، وتحوطه بواسطة مؤسسات الشأن الديني كما تحوط الأم صبيها.

نعم، هناك اجتهادات فردية أو جماعية في حدود مراكز الدراسات والأبحاث، استشعرت خطورة ما يكمن في تراثنا من قنابل موقوتة، فهبّت لتوقظ الأمة من سباتها، إلا أن صيحتها خافتة ضعيفة بفعل العواصف والرعود المتسلسلة على المستوى الرسمي والتنظيمي والفردي على حدّ سواء، لكن الأمل نور يضيئ ولو بعد حين، ونحن نعمل لذلك «الحين» ونتشوّف بحرارة.

+ يتميز المغرب بتعدد الطوابق الإدارية في الحقل الديني (مجلس علمي أعلى، مجالس محلية، وزارة ،رابطة محمدية، دار الحديث، جامعة القرويين، مؤسسة محمد السادس للمصحف الكريم، قناة دينية، إلخ....)، لكن مع ذلك نلاحظ أن المغرب فقد تدينه الخاص على حساب الاختراق الوهابي والإخواني والشيعي. هل يمكن أن نقرأ السلام على التدين المغربي؟

- أتحفّظ على جعل التيار «الإخواني» رديفا للمدرستين الوهابية والشيعية، وأعتقد أن المغرب ليس حالة خاصة، فكل بلاد العالم تتأثر وتؤثر في غيرها ثقافيا وسياسيا بعدما أصبح العالم قرية صغيرة، والمغرب لم يستقبل المدّ الفكري من تلك المشارب الثلاثة، بل توجد فيه أفكار وتيارات بعضها نابع من ثقافة الشرق الماركسي، وبعضها من فلسفة الغرب اللبرالي، ونحن نتطلع لتتعايش هذه المدارس فيما بينها وتعالج خلافاتها الأيديلوجية بالحوار أولا وأخيرا، فالوطن أكبر من التيارات، وهو يسع الجميع، والإبقاء على تماسكه ووحدته يجب أن يكون هدف كل التيارات والمدارس السياسية أو الفكرية، والتنوع ظاهرة صحية يجب تشجيعها، فبها تتطور المجتمعات نحو الأحسن.

ثم إنني لا أوافق على وجود «تدين مغربي» خاص، فالشعوب المسلمة لديها نفس التدين مهما اختلفت مذاهبهم ورموزهم، باستثناء بعض الدول التي شذّت عن جمهرة الأمة، كالسعودية بفعل المدرسة الوهابية، وإيران نتيجة المذهب الشيعي الجعفري.

+ الملك في خطاب العرش الأخير قال إن المغرب ليس في حاجة لمن يعلمه الدين، في إشارة إلى الزحف المشرقي الأصولي على بلادنا، هل تظن أن وزارة الأوقاف والمجلس العلمي الأعلى يقومان بدورهما في حماية التدين المغربي؟

- المغرب ليس بحاجة لمن يعلمه الدين صحيح، لأنه بلد له تراثه الفقهي العريق، وله رجالاته ورموزه الدينية، وهم أقدر على التنزيل الصحيح السليم لتعاليم الدين، فأهل المغرب أدرى بأوضاعهم وعاداتهم، ومن شرط الفقيه المجتهد أن يكون عارفا بأحوال بلده على كل المستويات.

والتيارات الدينية الشرقية التي تحاول الانتشار في العالم الإسلامي، والتي لم تستثن بلدنا المغرب كالوهابية والتشيع، تنطلق من كونها الصواب المطلق، وتزعم أنها النسخة المستقيمة من الدين الذي جاء به رسول الله.

وأنا لست ضد اعتناق أي مواطن مغربي لأدبيات المدرستين، كما أنني لا أرفض أن يكون أخي المواطن المغربي يساريا أو ليبراليا، بل لا يستفزني أن يوجد بيننا الملحدون، فالحرية الدينية حق مقدس مقرّر في كتاب الله، من خلال الإعلان الكوني الوارد في سورة الكهف: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، وسورة الكافرون: (لكم دينكم ولي دين)، أي بالإمكان أن نتعايش ونتعاون على مصلحة الوطن مع الاختلاف العقدي الديني، وهو ما نراه في الدول المتقدمة التي اعتنقت المبادئ الإنسانية الكونية.

وبخصوص وظيفة مؤسساتنا الرسمية ومدى حمايتها للتدين المغربي حتى لا تخترقه التيارات الدينية المتطرفة، فالحقيقة المرة أنها عاجزة مقصّرة في ذلك، وليس هناك إلا جهود محتشمة، لأن مؤسساتنا لا تزال معتمدة على آليات تقليدية منفصلة عن التطور الهائل الحاصل على مستوى الوعي الجمعي، ولأنها تفتقد للطاقات البشرية القادرة على محاورة الشباب باللغة التي يعرفون والأسلوب الذي إليه ينجذبون، وهذا لا ينفي وجود طاقات ومواهب، لكنها محدودة عددا، مقيدة بأصفاد التلقين والغيبوبة عن الواقع المتجدد كل لحظة.

+ هناك مفارقة تتجلى في أنه بقدر ما تتقاطر الطلبات على بلادنا لتأطير علماء تلك الدول وهيكلة حقلها الديني لمواجهة التطرف، نجد المغاربة في طليعة الجنسيات المتورطة في العمليات الانتحارية أو الانضمام للتنظيمات المتطرفة. كيف تفسر ذلك؟

- الحركات الإرهابية مزيج من جنسيات شتى، وكثرة المغاربة الذين يكونون في طليعة المتطرفين عائد إلى الحجم الكبير للجالية المغربية في أوربا، أما في غيرها فلا تكون نسبتهم ظاهرة مقارنة بغيرهم، فلا ينبغي الانسياق خلف بعض وسائل الإعلام التي لا تتحرى الدقة.

أما كيف يصير الشاب المغربي متطرفا رغم أن بلادنا مقصد الدول لمساعدتها في التأطير الديني، فالسبب هو أن التنظيمات المتطرفة تستطيع الوصول إلى الشباب والمراهقين قبل أن تصل إليهم توجيهات مؤسساتنا الرسمية، ذلك أن تلك التنظيمات تتواصل مع مستهدفيها بالوسائل والأساليب واللغة التي يعرفونها، وتستغل أوضاع الفقر حينا، والظلم السياسي أحيانا.

+ البعض يرى أنه باستثناء الوحي الإلاهي، فإن المغرب لم يتلق من الشرق سوى السموم والمآسي، في إشارة إلى تصدير التفسيرات الدينية الطاعنة في التخلف من الشرق العربي إلى المغرب. كيف السبيل للقطع مع هذا الشرق المنتج للسموم؟

- نحن هنا من أجل الصراحة ولو كانت مرة، لأن بلدنا بحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى.

لقد تلقى المغرب من الشرق وحي الله ورسالته، وتلقى التحرير من العبودية للاستعمار القوطي، وتلقى معارف فلسفية راقية وطرقا اقتصادية واجتماعية رائعة بالنظر لعصور التخلف أيام القرون الوسطى.

والذي لم يستقبله المغرب، إبان ظهور الإسلام على أرضه، هو التنوع الفكري والتسامح الديني الذين كانا في الشرق أفضل حالا.

ففي الشرق تعايش المسلمون مع أتباع ديانات شتى، وتنوعت مذاهب المسلمين الفقهية، وتعددت مدارسهم الكلامية ولا تزال في البلد الواحد.

أما في المغرب، فقد كان «غزو» الأندلس، الذي أراه خطأ استراتيجيا أوقعتنا فيه دولة الأمويين، سببا في القطيعة مع المسيحيين، وعاملا حاسما في تشكل فقه متطرّف في مسائل الجهاد والعلاقات الدولية، وكان حظر المذاهب الفقهية والعقدية ليهيمن مذهب وحيد، أخطر قرار أدى إلى انغلاق المغاربة إلا نادرا، وأنتج تفاسير في غاية التشدّد، إذ نستطيع أن نزعم بأن التشدّد الفقهي المغربي لا يتفوق عليه إلا التشدد الوهابي.

ولو عدنا إلى تفاسير المغاربة لآيات الجهاد، وإلى شروحهم للأحاديث المرتبطة بالموضوع، وقمنا بمقارنتها بتفاسير وشروح المشارقة، لشككنا في مقولة: «الخصوصية المغربية»، وهذا كلام مواطن مغربي غيور على وطنه، لا يريد أن يسهم في التعمية على الحقائق التاريخية والثقافية التي يتغذى عليها المتطرفون من شبابنا.

بل حتى في الفروع الفقهية الخاصة بالمسلمين، فالفتاوى المغربية أشدّ من نظيراتها في المشرق.

وأنا هنا أفرق بين «فقه الإمام مالك»، وبين «فقه المالكية»، وأدعو بحرقة للعودة إلى فقه إمام دار الهجرة، فإنه كان حكيما واقعيا مسالما منفتحا، وأنادي بضرورة التخلص ممّا لحق فكره ونسب إليه على يد فقهاء المذهب من تشديد وتعسير.

+ تختلف الاتهامات الموجهة لك بين قائل أنك تميل للوهابيين وقائل يقول إنك من شيعة المغرب. هل من توضيح للقراء حول ذلك وحول سبب الغضب الوزاري ضدك؟

- عندما يظهر كاتب حديث يصعب على الناس فهمه، فيضطربون في تصنيفه، والزمن كفيل بإزالة الضباب عن العقول والغشاوة عن الأبصار فيتضح لون الكاتب وجنسيته، وفي انتظار ذلك فإنني لا أملك إقناع المضطربين بل أزيدهم حيرة.

إن مصادري سنّية بامتياز، وقواعدي وآلياتي في التحليل ونقد التراث الفقهي كذلك، لكن المشتغلين بتصنيف الناس وفرزهم لا يريدون المحاكمة إلى المصادر والمنطلقات.

ولو ضمنت أنهم سيصدقونني فأنا سني عقيدة، مالكي أصولا، مستقلّ فروعا، ومع ذلك فإنني لزمت المشهور من المذهب المالكي طيلة قيامي بالخطابة عشرة أعوام بأحد مساجد طنجة.

أما الذي جلب علي الغضب ثم الاستفسار فالتوقيف، فهو مقالاتي ولا شيء غيرها، وهي موضوعات تستهدف الشباب المتعامل مع المواقع الإلكترونية، ويشهد الله أنني لم أبُح بأي منها فوق المنبر، ومع ذلك كان ما كان، والذي أتمنى أن يطويه النسيان.