الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الإله الجوهري: رواية "بابا سارتر" للروائي علي بدر فيلسوف الصدرية، أو سيرة الوجودي العربي الأول..

عبد الإله الجوهري: رواية "بابا سارتر" للروائي علي بدر فيلسوف الصدرية، أو سيرة الوجودي العربي الأول..

عبر مساري الدراسي و الثقافي ،قرأت عشرات الروايات العربية الممتعة، من حيث مبناها ومعناها ، لكن قليلة هي الروايات التي جعلتني اضحك ملئ الروح و القلب، كلما أنهيت فقرة من فقراتها أو فصلا من فصولها، روايات ساخرة بمواقف كوميدية سوداء و عميقة ، في نفس الآن ، من خلال رسائلها الحادة و نقدها وانتقادها للواقع و الحياة. روايات تعد على رؤوس الأصابع ، اذكر منها: "المتشائل" للفلسطيني إميل حبيبي و"اللجنة" للمصري صنع الله إبراهيم و"أشواق درعية" للكاتب المغربي محمد العمري و "آخر الملائكة " للروائي العراقي فاضل العزاوي..، لكن رواية " بابا سارتر " لعلي بدر ( رياض الريس - بيروت - 2001)، جعلتني لا أتوقف عن الضحك، كلما توغلت في قراءة فصولها و الوقوف على تفاصيلها المصاغة بعناية فائقة، حيث استمتعت بالنبرة الساخرة الطاغية على أجوائها و فرادة شخصياتها الممثلة لواقع الثقافة والمثقفين بالعراق و العالم العربي، سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، سنوات العلم و المعرفة و المواقف الفكرية و الفلسفية النضالية ، الغامرة بالعنتريات و النقاشات الفارغة، التي قادت الأمة العربية لما تعيشه الآن من مسخ سياسي و اجتماعي و ثقافي ، إنه جيل الانبهار بماركس و لينين و سارتر و سيمون دو بوفوار و البقية المتبقية من فلاسفة القارة الأوروبية والأمريكية...

" بابا سارتر " رواية يحاول ساردها الرئيسي التنقيب و البحث و من ثم الكتابة عن سيرة فيلسوف عربي عراقي ، طبع تاريخ العراق المعاصر بسيرته المتفردة ، سيرة فيلسوف لم يدرس الفلسفة و مع ذلك كان نابغا من نوابغها و رائدا من رواد الفلسفة الوجودية ، سائرا مع كبار مفكريها وكتابها الغربيين جنبا إلى جنب ، لكن الإشكال الكبير، أن هذا الفيلسوف لم يترك أثرا ، اللهم حكايات شفهية و مغامرات ظلت الحانات و الأزقة الخلفية لبغداد تحكيها لسنوات بكثير من الإعجاب و الانبهار . تصوروا معي ،ساردا - كاتبا لسيرة فيلسوف لم يترك من ورائه فلسفة ، اللهم فلسفة التسكع و التمسك بأهداب الفلاسفة الكبار و التماهي مع واحد منهم ، بل أكثرهم شهرة سنوات الستينات من القرن الماضي ، المدعو جون بول سارتر ، تصوروا معي كل ذلك ، بكل ما أوتيتم من قوة ذكاء و خفة روح و سرعة بديهة ، فأكيد أن خيالكم الواسع لن ينفعكم ، لكن سعة خيال كاتب السيرة ( السارد ) أولا ، و مرويات شفهية ( ملتقطة من أفواه أناس شعبيين من ساكنة الصدرية و رواد المقاهي و الحانات البغدادية ) ثانيا ، ساعدت على تدبيج فصولا غرائبية من مسار عبد الرحمان أو فيلسوف الصدرية ، كما كان يلقبه الجميع ، فيلسوف كان يقطر فلسفة و تفلسفا ، أما مأثوراته و حكمه و استشهاداته و حياته الخاصة و العامة ، فكانت تنضح بمعاني العذوبة والأهمية و التفلسف الوجودي المتقاطع حد التوحد مع الفلسفة الوجودية ، كما جاءت في مصادرها الأكثر أهمية ، مثلما تسير على هدي روادها الكبار ، طبعا جون بول سارتر و سيمون دي بوفوار و هلما جرا : " .. كان المرحوم فيلسوفا عظيما ، تزوج من ابنة خالة سارتر ، هو الذي علم الستينيين العبث و الغثيان ، و كان سهيل إدريس وجودي عصره معجبا به ، هذه الفلسفة مهمة في عصرنا ، ذهب ذلك الجيل مع الأسف ، هو الجيل الوحيد الذي قرأ دروب الحرية و الغثيان و الوجود و العدم".

السارد – الباحث ، يسرد علينا ،فصولا مثيرة عن مسار شخصية عراقية فذة ، شخصية تجاهلتها الكتابات العربية و الغربية الفلسفية في تواطؤ مشين ، لكن أبناء العراق الأفذاذ ، خاصة منهم الشيطان المدمر حنا يوسف و صديقته الخليعة نونو بهار ، أغويا السارد بالبحث و كتابة هذه السيرة المتفردة ، نزولا عند رغبة تاجر عراقي نصف مجنون ونصف معربد و غير شريف بالمرة اسمه صادق زاده..

البحث عن فصول حياة فيلسوف الصدرية ، قادت السارد لاكتشافات عجيبة و غريبة ، من مثل أن هذا الفيلسوف ،كان يشبه إلى حد بعيد سارتر في الملامح بل و في تسريحة الشعر و طريقة التفكير و التصرف أمام الناس ، لكن يختلف عنه في شيء واحد ، اختلاف أول لنقل عيبا مؤلما يمس بالهيبة و قوة الشخصية ، عيبا يتمثل في كون فيلسوفنا ، لم يكن أعور كسارتر ، حالة جعلته يحس ، و معه المفتونين بفلسفته ، أن السماء لا عدالة لها ، لأن حرمان عبد الرحمان الفيلسوف من العور و منحه في المقابل لجاسب الأعور ، الذي كان مجرد بائع للخضر في الصدرية على عربة مجرورة ، خضار لا يعرف معنى الفلسفة و لا التفلسف و لا معنى لعبقرية عينه العوراء ، بل العجيب أنه لم يكن يعرف سارتر ، و الأدهى من كل ذلك ، أنه كان يتأفف من عينه العوراء و يحاول تغطيتها ما أمكن بقطعة قماش متسخة ، نعم ، يغطي العين الفلسفية السارترية المتأملة في صمت ، كنه الوجود و عمق التمرد على الحياة و الأشياء..

عبد الرحمان ، أو فيلسوفنا المبجل ، ذهب إلى باريس لدراسة الفلسفة و الإمساك بكنه وجودها و التمسك بعمق جذورها ، لكن بدل الدراسة الجادة ، فضل أن يعيش مغامرات وجودية عديدة في الحانات و الأزقة الباريسية الخلفية مع الرفاق و الخلان و عاهرات الدرجة الثالثة ، و يعود لبغداد بعد سنة و نصف من التسكع و الدوران في الفراغ ، دون أن ينجح في دراساته الجامعية، أي دون حصوله على شهادة جامعية ،معللا النفس بحياة فلسفية دون شهادة في الفلسفة ، لقد كان محقا : فما معنى الشهادة في عالم لا معنى له ؟ ، و هل كان سارتر فيلسوفا بشهادته أم بفلسفته ؟.

عاد لبغداد متأبطا شقراء فرنسية كزوجة ، أكدت للجميع بعد نظره و مدى تمسكه بأهداب الوجودية الخلاقة ، عاد و هو غير بعيد عن دروب الوجودية ، بل حاملا معناها الإنساني العميق ، لقد كانت الزوجة الشقراء ابنة خالة سارتر، بالله عليكم ، تمثلوا معي معنى ، أن يحقق إنسان ما مصاهرة مع سيد الفكر الوجودي، و أن يركب كل ليلة جذر الفلسفة الوجودية و أنوثتها الفاتنة ، بل و ينجب منها أبناء، أبناء تركهم و أمهم بعد سنوات ، دائما في إطار التأفف و الغثيان ، تركهم يواجهون مصيرهم الوجودي قاطعا معهم الرابط الذي يربطه بهم ، مكتفيا بالتردد عليهم بين الفينة و الأخرى ، لقد أكد بذلك لأنصاره و خصومه معا ، انه جد متعالي عن الأشياء السطحية الحياتية و العائلية..

السيد شوكت والد الفيلسوف، الذي كان يشبه هو الآخر والد سارتر في كل شيء ،حاول من خلال علاقاته المتشابكة ، أن يجد واسطة لدى رئيس الوزراء نوري السعيد سنة 1957، لكي يحصل لابنه على وظيفة من خلال استحداث رتبة فيلسوف بديوان رئاسة الوزراء ، لكن السيد الرئيس نصحه نصيحة ظل عبد الرحمان يفتخر بها طول حياته : " أنت فيلسوف و عليك أن تتفلسف ،إن العمل سيعوق فلسفتك .." ، لقد كان المتكلم صادقا معه ، لأن الوظيفة شغل خاص بعباد الله الذين لا شغل لهم بالأفكار السامية و الأشياء العظيمة.

بعض الخصوم و الأعداء ذهبوا إلى أن فيلسوف الصدرية تعلم التفلسف الوجودي من سهيل إدريس وروايته الشهيرة " الحي اللاتيني " و مقالاته التي كان ينشرها في مجلة الآداب ، لكن ادعاءات كهاته مردود عليها ، على اعتبار أن فيلسوفنا كان وجوديا منذ الطفولة ، و مظاهر الغثيان التي ميزت شخصيته ، كانت متجذرة في روحه منذ حادثة تلصصه على والديه في حجرتهما و هما عاريين يركب كل واحد منهم الآخر ، بل أن رواية سهيل إدريس بكل وجوديتها لا يمكنها أن ترقى إلى عمق فلسفته و تفلسفه : " في الواقع أن رواية سهيل إدريس بكل وجوديتها لا ترقى إلى الحياة العابثة المنحطة التي قادها فيلسوف الصدرية في الستينات ، كما أن كتابات عبد الله عبد الدايم و رينيه حبشي في مجلة الآداب أوائل الخمسينات عاجزة عن صياغة رؤية وجودية عميقة تناظر رؤية فيلسوف الصدرية ، أو تتوازى معها كما أن محاضرة الأستاذ ألبير نصري نادر في كلية الآداب لا يمكنها أن تكون مصدر لمن يقرأ سارتر بالفرنسية ، و لا ترجمات إميل شويري التي كان للفيلسوف تحفظات شديدة عليها و شكوك بفهم إميل للجملة الفرنسية و نقلها ." ص 158 و 159

عبد الرحمان ، رغم ألمعيته في الكلام و الدفاع عن الفلسفة الوجودية و اعتراضه على كتابات الآخرين – الكتاب العرب - ، لم يخلف تراثا مكتوبا ، لأنه و بكل بساطة ، لم يكن قادرا على كتابة أفكاره ، ثقافته كانت شفهية ، ثقافة تستند على الكلام لا على الكتابة ، ثقافة تتقاطع مع اغلب المثقفين العرب من جيل الستينات ، جلوس في المقاهي و التحدث بصورة تلقائية لا نهائية عن كل شيء ، الكتب لا تقرأ منها إلا العناوين ، ولا يعرف من مضامينها إلا ما ينشر ملخصا في الجرائد و المجلات ، و مع ذلك ممالك تبنى في الكلام وممالك تهد و ثورات تصنع على الطاولات .. حين سأله تابعه إسماعيل حدوب يوما : " وسارتر لماذا يكتب ؟" .. قالها و قد فغر فاه بانتظار إجابة الفيلسوف ، الذي أغمض عينيه مثل رسول و أجاب : " سارتر شيء و نحن شيء آخر .. ما يحق لسارتر لا يحق لغيره ، سارتر يكتب لكي يترجم إلى العربية .. ومن ثم لنقرأ .. سارتر شيء آخر "... (ص 52 ) كدليل على عبقريته الوجودية – لا الربانية - كان الفيلسوف يطيل الكلام ، ويطيل التأمل ، يتحدث بلغة غريبة صعبة و معقدة عن الوجود لذاته و الوجود من أجل ذاته.

إسماعيل كان مرافقا للفيلسوف ، يسجل كل أقواله و أفعاله ،لا لأنه يحب الفلسفة و التفلسف و لكن ، لأن عبد الرحمان يأخذه أينما حل و ارتحل ، خاصة إلى الحانات و دور الدعارة و السهرات التي لا تنتهي ، يأكل و يشرب بالمجان ، فلا غرو أن صفق و هتف بل و وقف في وجه خصوم أستاذه و طرح بعضهم أرضا ، بل كاد مرة أن يبقر بطن منتقد من حزب المنتصرين للأفكار المتعارضة مع أفكار الفيلسوف ، لكن ما كان يثير حنقه و سخطه ، أن يرى هؤلاء المثقفين – و عبد الرحمان واحد منهم - يشتم بعضهم بعضا في الحضور والغياب ، لكن ما أن يتلاقوا مرة أخرى ،حتى يتعانقون و يتبادلون كلام الحب و الود : " كان إسماعيل يندهش من هذا النفاق و من هذه المراوغات و الغش في العواطف " (ص 89).

إسماعيل كان ، من قبل ، تابعا لشاؤول الفيلسوف الماركسي ، لكنه هرب منه عندما تعرف على فلسفة عبد الرحمان الوجودية ، لأنها كانت أكثر جاذبية ، فالوجودية واضحة في كثير من الأمور عكس الماركسية ، مثلا : " حينما يقول عبد الرحمان : عدمية ، هذا يعني أنهم سيسكرون و حين يقول ، حرية فهذا يعني أنهم سيبيتون مع قحبة و حين يقول التزام ، فهذا موعد في البار أو في الملهى .. كل هذه الأشياء هي أشياء تمتع و تؤنس ، بينما مستعمرة السعادة التي يريدها شاؤول لن تكون إلا بالنضال و القتال ، هذا يعني أن نناضل ، ربما نموت و لا نحصل عليها ، فأي فردوس هذا ؟ " ( ص 98-99).

لإسماعيل نظراء في الفتونة و التمسك بتعاليم الأب سارتر في نفس الآن ، من أبرزهم عباس وجودية الذي كان يدخل المقاهي و بيده خنجر ، و يصرخ : " الوجودي على صفحة ، و العدمي على صفحة ، و من يكره الوجودية على الأرض أنبطحه ، كان عباس يتفاخر في ملاهي و مقاهي بغداد أمام أصدقائه الأشقياء ، أن بإمكان سارتر أن يغلق ثلاثة مقاهي في مونماتر في ساعة واحدة دون سكين " ص 194

إسماعيل شهد على مغامرات فيلسوف الصدرية مع النساء ، خاصة منهن العاهرات والمتفلسفات العظيمات ك " وزة " أو عذراء الوجودية كما كان يسميها ، إعجابه بها كان لا حدود له ، لهذا كان يقبل أن يذل نفسه أمامها ، و يركع لها و يزداد هوسا بمغازلتها ، نفس العلاقة و ربما أكثر كانت تربطه مع دلال ، التي كانت تلهب خياله بفمها الأحمر القاني و العطر الفواح الذي تضعه و سيجارتها الكنت البيضاء التي كانت تدخنها ، و تنفخ الدخان في وجهه فيشعر بالارتياح الكلي الممزوج بالدغدغة ،. دلال كانت تشعره بالتحرر من الغيرة و المسؤولية الأخلاقية و الاجتماعية ، كما أنه كان لا يعبأ أمامها بأية قيمة تضجره و لا سيما قيمة الشرف..

إسماعيل رافق عبد الرحمان في حله و ترحاله ، لكنه بدأ يتغيب فترة من الزمن متعللا بأنه يكتب مقالة عن الوجودية ، مقالة عن سارتر يرد فيها – و هذا ما كان يعجب عبد الرحمان – على المحرف سهيل إدريس . لكن البعض أكد أنه لم يكن يكتب مقالة أو يراجع مؤلفا ، وإنما كان يتردد على منزل فيلسوف الوجودية بغياب الزوج ، كان يتردد على زوجة الفيلسوف ، على السيدة الفرنسية التي يزعم عبد الرحمان أنها ابنة خالة سارتر ، وهذا الأمر بالنسبة لإسماعيل كان عاريا من الشك ، و طالما هو يستطيع أن يركب ابنة خالة أكبر فيلسوف فرنسي فكأنما ركب فرنسا كلها.

السارد يفاجئ القارئ بكون فيلسوف الصدرية تأثر أعمق الأثر ، في بداياته ، بإدمون قوشلي ، وهو مسيحي مثابر ، بدأ وجوديا سنوات الخمسينات و تحول إلى التروتسكية خلال الستينات ، تحول جعله يتحول إلى خصم ، بعد أن كان معلما و ملهما و رفيقا ، تحول جاء نتيجة غيرته من فيلسوفنا " حين عرف بعلاقة الحب التي تربط نادية خدوري (ابنة خالته )بفيلسوف الصدرية ، ثار على الوجودية ، ثار على البرجوازية و الاستعمار و الاستثمار ، و ابتدع لنفسه مفهوما جديدا للتمرد ، فلم يعد التمرد الوجودي يلهبه أو يرضيه ، لأنه تمرد مخنث جبان ساكن مستسلم ... " (ص 196) . أصبح إدموند " يريد الثورة ، و لم تكن هذه الثورة هي ثورة وجودية ، لأن الوجودي بدون ثورة ، إنما ثورة تروتسكية كاسحة و التي تعني : الفوضى التخريب الهدم القلع الاجتثاث . ستكون الثورة لا محالة و سيقودها هو و سيهدم - أول ما يهدم – بيت البرجوازي عبد الرحمان، و من ثم بيت خدوري .. " (ص 196) ،كان يحلم و يخطط لكي تنتصر الثورة و يستأثر بواسطتها على نادية ، سيعريها ، سيجعلها ترتجف تحت فخذيه بعد أن يطرحها الفراش ، سيغتصبها اغتصابا تروتسكيا..

نادية سبب النزاع و الخصام و التحول من فلسفة لفلسفة ، كانت تهز كيان فيلسوف الصدرية ، لم يكن يستطيع مقاومة إغراءها " كان يشعر بأن الله قد خلق كل شيء لخدمته ،لذا فإنه أدرك أنها المعبود الذي خلقه الله له ، و لتقبيله ، مثلما صنع الانكليز البراندي بالليمون لإسكاره . إن السببية حقيقة فلسفية، و لكنه مركز هذا الكون لذا ليس هنالك سبب خارج وجوده " (ص 213) ، حقيقة حبه لها بدأت منذ أن شاركها الحديث و وجد أنها تعرف سارتر و كتابه " الغثيان " و ألبير كامي و روايته " الغريب " وتعرف سهيل إدريس و دار الآداب مثلما تعرف سيمون دي بوفوار و عايدة مطرجي إدريس و كتبهم ، صحيح أنها لم تقرأ و لو كتابا من كتب هؤلاء لكن على الأقل تعرفهم و تعرف أسعار كتبهم المتواجدة بمكتبة ماكنزي التي كانت تشتغل بها ، : " .. و هي ميزة ليست سهلة على الإطلاق ، فأنت لو بحثت بين وجوديي الأرض كلها ، فلن تجد أحدا منهم يجيد معرفة أسعار الكتب الوجودية على الإطلاق ، و بالتالي ستكون شيئا مضافا إلى فلسفته ، وهو سعر الفلسفة و ما تزنه في الخارج ، و لو كانت غيرها لقالت ببلاهة : سارتر ؟ سارتر منو ؟ " (ص209).

رغم هذا الحب الوجودي ،فإن نادية تزوجت في النهاية من إدمون ، بعد أن انقطعت علاقتها بعبد الرحمان ، تزوجها ، لكنه لم يجدها عذراء ليلة الدخلة ، صرخ صرخة و ألزم نفسه بقسم قتل عبد الرحمان ، رغم أنها أكدت له أن المسؤول عن ذلك هو مئير بن نسيم حبيب الطفولة : " أحلفك بالصليب مئير بن نسيم ما عبد الرحمان ، عبد الرحمان كتبت له رسالة و قلت له إني ما باكر ، لكنو هرب إلى باريس .. أقول لك الحقيقة يا إدمون لو تقطعني ، ما أ قول غير الحقيقة .."( ص232 )

بحث السارد بعد ذلك في وفاة الفيلسوف - الوفاة لغز جد محير لكل من حاول البحث في كيفية موت عبد الرحمان فيلسوف الصدرية - ، وقد حدده في ثلاث صور محتملة ، الأولى انتحاره بمسدس، بسبب الغثيان و شعوره بعدمية الحياة – لا بعدمها – ( لم يفرق المثقفون العراقيون آنذاك بين العدمية و العدم ). الصورة الثانية تقف وراءها المؤامرة التروتسكية ، مؤامرة معروف من دبرها و حركها ، و الصورة الثالثة الفضيحة ، عندما ضبط مؤذن الجامع المحاذي لمنزل الفيلسوف ، إسماعيل عاريا مع جرمين زوجة الفيلسوف ، حيث غادر الفياسوف الحياة ، غما و كمدا ،أسبوعا واحدا بعد ضبطهما و انتشار الفضيحة..

السارد انتهى من كتابة السيرة ، و هي كتابة ، أو كما اعترف في الفصل الأخير من الرواية : " لقد أعتقتني الكتابة من ذلك لأني أطلقت العواطف التي لم يجد الفيلسوف لها متنفسا أو مخرجا ، فنفخت فيه روحا و بعثت فيه حياة حتى أوصلته إلى الانفجار ، لا أعني بذلك أني سجلت تاريخا ، إنما شددت على خطر و عبثية التفسير الذي يستند إلى التاريخ . لقد جعلت للوهم مكانا للشخصية في السيرة، وردمت الهوة بين وهم الشخصية و الموضوع الواقعي، لذا فإن ما يجمع الفيلسوف المكتوب و الفيلسوف الواقعي هو طريقة العيش و البيئة و الشخصيات التي تحيط بهما. لقد أدركت أن الناس لا تحيا إلا من خلال الوهم الذي تكونه عن نفسها ، فصنعت علاقة بين الكلمات و الأشياء من خلال الشخصيات وأوهامها. خلقت صورة مكملة في الذهن اشد لوعة من الواقع، و هي صورة لا يتسنى لعمل مكتوب بالدم البارد أن يضمها بين دفتيه " (ص243 ). و بذلك يظل فيلسوف الصدرية غائبا من الواقع و إستيهامات التاريخ ، عائشا في نفوس من أحب سيرته و تفلسفه الوجودي الخلاق ، لكن المدمر في نفس الآن..