حاولنا من خلال المقالين السابقين: "الإجهاض في المذهب المالكي، من مدخل ضبط مسالك النقاش"، و"الإيقاف الطوعي للحمل بين التأويل الفقهي والترسيم القانوني"، إزالة الالتباسات التي تستهدف بها الأصولية مذهب البلاد، باعتماد منهجية "السبر والتقسيم"، كآلية لتفكيك موضوع الإجهاض بجعله معاصرا لنفسه في سياق تشكله. وسنحاول إعادة بنائه بجعله معاصرا لنا، في معناه ومبناه.
وللانتقال من عتبة التفكيك، إلى عتبة إعادة البناء، لابد من ثلاثة ممهدات:
1- موضوع الإجهاض هو في اكتمال مستمر، واجتهادي بامتياز، باعتبار أن علة الأحكام في أصل بنائه عقلية، بحيث يجوز تخصيصها اتفاقا. ناهيك عن المركز القانوني لأمير المؤمنين في الفقه المالكي؛ فالإمام عندنا في المذهب مجتهد. وهو مؤتمن بهذا المقام، على رعاية المصلحة الخالصة أو الراجحة في حق الأمة.
2- إن التشريع الجنائي على مستوى القوانين الفقهية في المذهب المالكي، راعى علم التشريح على نحو ما نجده في كتاب "الفروق"عند القرافي في، "الفرق الحادي والخمسون والمئتان بين قاعدة العينين، وقاعدة كل اثنين من الجسد كالأذنين ونحوهما". وراعى العامل السيكلوجي في تفويض "السلطان القتل لمستحق النفس على المشهور، ولا يفوضه لمستحق الطرف اتفاقا، مع أن الجميع قصاص"، كما في "عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق" للونشريسي، في حين نجد أحمد المنجور، ترجيح مسألة النظام العام في هذا الجانب، في "شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب"، ف "ما يؤدي أخذه للفتنة كالقصاص في النفس والأعضاء يرفع ذلك للأئمة، لئلا يقع بسبب تناوله تمانع وقتل وفتنة أعظم من الأولى". وراعى البعد الاجتماعي القبلي، بأن وضع دية الخطأ على "عاقلة القاتل"، و"هذا أمر كان في الجاهلية فأقره النبي (ص) في الإسلام، ولا يحمله القياس"، على نحو ما نقف عليه في "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد. كما استحضر الفقه، واقع العبودية في العصور الوسطى، فلم ينظر إلى الجنين في حد ذاته، بل باعتبار إضافته؛ هل هو جنين الحرة أو الكتابية من المسلم، أو الأَمة من سيدها الحر، أو النصرانية من النصراني؟ ما نود قوله من هذا التركيب، أن واقعية الفقه في تلك العصور، في بناء مفاهيمه وضوابط معاملاته، يجب استصحابها -بمراعاة مكتسب المساواة، وتطور الطب والمعطيات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وشرع من حولنا على مستوى حقوق الإنسان- في نوازل اليوم ومن بينها موضوع الإجهاض.
3- لقد ميز تشريعنا الفقهي بين النفس والروح، وميز ما بين النفس وما دونها من الأطراف، وميز بين وظائف الأطراف (الأعضاء) فيما بينها في تقرير مقادير الدية. لذلك فاعتبار إسقاط الجنين قبل نفخ الروح فيه، قتل نفس، إنما هو على "المجاز"، لا على "الحقيقة"، وذلك لتمتيع الأَمة بحقوق ما تصير به أم ولد، وتمتيع الأم بصرف النظر عن وصف الحرية، بالدية جراء الاعتداء عليها. بل هناك اتجاه في الفقه في تعيين من يرث دية الجنين، يرى أن ذلك حقا خالصا للأم، لأنه طرف من أطرافها، أي أنه يندرج باعتباره عضوا من أعضائها، ضمن الحق الخاص للأم، وليس ضمن الحق المشاع للورثة وبيت المال. واستحضار ظلال معاني هذا المعطى الفقهي، قد يدفع في اتجاه تبويب هذا الموضوع خارج القانون الجنائي.
بهذه الممهدات، يمكن إعادة بناء الموضوع بالنظر إلى مقدمتين:
1- إن ما يعتبر أدلة نقلية في هذا الموضوع، قرآنا وسنة، لا تنشئ أحكاما، بل هي في معرض الخبر للاعتبار بقدرة الله عز وجل، وعنايته بالإنسان، وهي تستعرض أطوار خلقه. ونقف إجمالا على تدرج سرد هذه الأطوار من خلال سور القيامة الآيات 37.36.35 وغافر الآية: 67، والحج الآية: 5، والمؤمنون لآيات: 14.13.12. وجاءت الأحاديث لتحدد مدد أطوار الجنين إلى حين نفخ الروح فيه. وتبويب هذه الأحاديث لا يدخل في باب التشريع، فحديث ابن مسعود الذي يحدد نفخ الروح مع بلوغ الجنين120 يوما، تم تبويبه في صحيح البخاري في كتب "الأنبياء" و"التوحيد" و"بدء الخلق". وفي صحيح مسلم في كتاب "القدر". أما حديث حذيفة، الذي يحدد نفخ الروح مع بلوغ الجنين ما بين 40 و45 ليلة، فمبوب في صحيح مسلم في نفس الكتاب. فما يمكن أن نستنبطه من هذين الحديثين كقاعدة للحكم الشرعي هو تقسيم تكون الجنين إلى طور ما قبل نفخ الروح، وطور ما بعده. وهذا التحديد مفيد لسقف الإيقاف الطوعي للحمل، مع استحضار المعطيات الطبية في هذا الباب، للتوفيق بين الأدلة، في هذا التحديد، على قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات. وعلى سبيل الذكر ف "قانون الصحة العمومية" بفرنسا يحدد ذلك من خلال المادة :L2212-1، قبل نهاية الأسبوع الثاني عشر للحمل.
2- إن حرص صاحب الأمر/ أمير المؤمنين، على أن يكون المجلس الوطني لحقوق الإنسان من بين مكونات اللجنة التي عُهد إليها النظر في موضوع الإجهاض، يمثل رسالة عميقة الدلالة على طريق استحضار البعد الحقوقي في تراكماته الكونية، في تكامل المقاربة القانونية والدينية للموضوع، برؤية مقاصدية تراعي مبدأ قدسية الحياة، وضرورات الإكراه في الحمل، وبثقافة التأهيل في المسمى الشامل للتنمية البشرية. وعلى نهج روح هذه الرسالة، سنثير ثلاثة جوانب في هذا المعمار:
أ- موضوع الإجهاض هو في موجباته امتداد لموضوع "العزل"، لذلك فدواعي إيقاف الحمل، يمكن تقريرها انطلاقا من موجبات العزل، كمراعاة صحة المرأة وعسر الرجل عن النفقة، وقد أقر النبي (ص) هذه الموجبات، لتنضاف لهذه الإكراهات/ الضرورة، مختلف حالات الاغتصاب وزنى المحارم. فاستصحاب الحال هو أقرب إلى توصيف دواعي الإيقاف الطوعي للحمل، بما في ذلك إيقاف الحمل لاعتبارات طبية، مرتبطة بحياة المرأة ومستقبل الجنين.
ب- أما بخصوص المعنى/ المصطلح الذي يمكن أن يستقر عليه الترسيم القانوني، فقد دأب المشرع المغربي على تفادي بعض شحنات الصراع في نحته للمصطلح القانوني، من قبيل "الوصية الواجبة" و"الكفالة". وسيرا على هذا النهج، ولتجاوز الشحنة المرتبطة بمصطلح الإجهاض. يستحسن استبدالها بالإيقاف الطوعي أو الإرادي أو الاختياري للحمل كما فعل المشرع الفرنسي(ivg). وأرجح ترجمة volontaire بالطوعي انسجاما مع وحدة المصطلح في منظومة التشريع المغربي، باستحضار "المغادرة الطوعية" في الوظيفة العمومية، وانسجاما أيضا مع الاستعمال القرآني، من خلال قول الله تعالى: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض إيتيا طوعا أو كرها.." الآية. فالإيقاف الطوعي للحمل، هو التوصيف القانوني المناسب لموضوع الإجهاض.
ج- إن المبنى القانوني للموضوع يستحسن أن يخرج عن القانون الجنائي. ففرنسا انتقلت به من القانون الجنائي إلى قانون الأسرة في جانب منه، ليستقر سنة 1975، في "قانون الصحة العمومية". وداخل هذا الإطار القانوني تتم التعديلات في هذا الموضوع. بالنسبة إلينا ما دام الموضوع في مستنده قد تمت لملمته في الفقه من أبواب النكاح والعتق والدية، ومع "رعي الخلاف" بشأن من اعتبر الجنين مخصوصا بالأم كعضو من أعضائها، فيستحسن طرحه كملحق بمدونة الأسرة. أما الإبقاء على التعديلات المنتظرة في إطار القانون الجنائي، فسيكرس معنى الزجر وليس معنى االتأهيل والرعاية الاجتماعية، وستفقد بذلك هذه التعديلات مسحة أنسنتها. ولن تخدم بذلك إلا نزوعات من يصطف خارج منطق "المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي".
وبالجملة فإن هناك حاجة لتغير شحنة دلالة الإجهاض، إلى الإيقاف الطوعي للحمل، وتغيير مبنى القانون الجنائي فيه إلى مدونة الأسرة. فطبيعة التعديلات المنتظرة بمعناها ومبناها، ستكون دالة في باب تحديد فلسفة التوجهات التحديثية في البلاد. ونحن في هذا يحدونا الأمل إلى لحظة توافق وطني عريض بملء جغرافية المغرب في حدوده الحقة لا المبتسرة، وبملء رصيده الحضاري كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين،لا بعقم التنميط الأصولي، وبإرادة جماعية نحو المستقبل، في مدارج مذهب البلاد ومرجعيته الناظمة لطمأنينته الروحية وعيشه المشترك. فهل نملك "الحق في الحلم"؟