Thursday 6 November 2025

كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: زُهران ممداني.. عظمة أمريكا

عبد الرفيع حمضي: زُهران  ممداني.. عظمة أمريكا عبد الرفيع حمضي
حين يتحدث العالم عن الولايات المتحدة، يتجه البصر أولاً إلى القوة الصلبة ،اقتصاد يقترب من ثلاثين تريليون دولار، جيش تتجاوز ميزانيته 900 مليار سنويًا، صادرات تمثل 43% من تجارة السلاح العالمية، صناعة تكنولوجيا تفوق 2.7 تريليون دولار، وصناعة سينما وإعلام توفر أكثر من مليوني وظيفة وتضخ مئات المليارات. هذه الأرقام وحدها كافية ليُقال إن أمريكا ليست دولة فقط؛ إنها هندسة قوة جيوسياسية واقتصادية وثقافية يصعب منافستها.
 
لكن القوة شيء، والعظمة شيء آخر. فالدول الكبرى تُقاس بما تملك، أما الأمم العظيمة فتُقاس بما تمنح. وما يميز الولايات المتحدة ليس فقط ترسانتها ومختبراتها وأسواقها، بل قدرتها – في لحظاتها الراقية – على فتح الباب لمن يأتي من خارج السلالات التقليدية، ومن خارج مربع الامتياز. هكذا يظهر اسم قد يبدو صغيرًا أمام الثقل الرمزي للدولة ،زهران ممداني.
 
رجل من أصل هندي، وُلد في أوغندا، مسلم شيعي، جاء من هامش العالم لا من قلبه، ولم يحمل الجنسية الأمريكية إلا قبل سنوات قليلة. لا علاقات قديمة مع مراكز النفوذ، ولا جذور عميقة في الطبقة السياسية، ولا إرث عائلي في السلطة. ومع ذلك، فاز. ليس فقط كـ “مهاجر” أو “ابن الجنوب العالمي”، بل كاشتراكي في قلب الرأسمالية العالمية، في نيويورك تحديدًا: مدينة المال، وول ستريت، البورصة الأكبر في العالم، حيث يُفترض أن الأفكار الاشتراكية لا تعيش، وأن السياسة لا تعلو على صوت الأسواق.
 
ومع ذلك… فاز.
فاز حيث يعتقد كثيرون أن السوق تملك القرار النهائي، وأن المال يسبق المعنى دائمًا. وهذه ليست حكاية فرد، بل اختبار حضاري ،حين تستطيع دولة أن تسمح لفكرة مختلفة – وربما مزعجة للمركز المالي والسياسي – أن تدخل صناديق الاقتراع، وأن تنتصر. هنا يكمن معنى الديمقراطية ليس كآلية انتخاب فقط، بل كقدرة على احتضان المختلف ومنحه فرصة عادلة.
 
"توكفيل" منذ القرن التاسع عشر ،قال : “في أمريكا لا يسألونك من أبوك، بل يسألون: ماذا تستطيع أن تفعل؟”. وبعد قرنين بعده جاء باراك حسين أوباما، ابن مهاجر كيني، ليقول يوم تنصيبه : " ان الحلم الأمريكي لا ينتمي لجيل واحد، بل يتجدد مع كل قلب يؤمن به.”
وهكذا تستمر الفكرة، تتعثر، تنهض، تتناقض، لكنها لا تموت.
وبالتالي ففوز زهران ممداني ليس انتصارًا لرجل واحد؛ إنه لحظة تُذكر أمريكا بأن عظمتها ليست فيما تملكه، بل فيما تتيحه. ففي عالم يرتفع فيه صوت الخوف من المختلف، وتتحصن فيه المجتمعات بجدران الهوية، فلازالت هناك دولة تقول – مهما أرهقها الجدل وصراعات الداخل – إن حلم الفرد يمكن أن ينتصر على هندسة السلطة.
وهنا، فمن مسؤوليتنا ونحن نتلمس الطريق في دول الجنوب أن نتساءل:
هل نمنح بعضنا حق القفز من الهامش إلى المتن؟أم نعيد إنتاج نفس الأسماء ونفس الشبكات ونفس المخاوف؟
فالعظمة ليست في القوة التي تفرض، بل في الفرصة التي تُمنح.