Saturday 1 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: هاكا عاجبني أنا 

عبد الرفيع حمضي: هاكا عاجبني أنا  عبد الرفيع حمضي
«هاكا عاجبني راسي»…
حين غنّاها زكرياء الغافولي أول مرة، لم يكن يتخيّل أنه يلقي حجرًا صغيرًا في ماءٍ هادئ سيُحرّك أسئلة الهوية والجمال والزمن بداخلنا.فالجملة تبدو خفيفة ومرحة على إيقاع الفرح الشعبي، لكنها في العمق فلسفة قبولٍ للذات ومقاومةٌ هادئة في وجه عالمٍ يطالبك أن تكون أجمل مما أنت، وأصغر مما صرت، وأكثر سعادةً مما تشعر.
فمن منا كلما طُلِب منه صورته الشخصية لبروفايل مهني، أو لملفّ ترشّح لمنصب إداري او سياسي أو لإعداد ملصق  لندوة فكرية ، أو حتى لمنشور بسيط على فيسبوك… ولم  يقم بفتح  هاتفه الذكي باحثًا عن صورةٍ  له من الزمنٍ القديم؟
نمرّ على الصور، ونختار واحدة “تُقنع”، لا واحدة تُشبه.كأننا نخشى أن نُرى كما نحن، وكأن الزمن عيب، والتجربةُ نقصان، والتجاعيدُ شهادةٌ محرجة على عبور الحياة.
ليس العيب في أن نحب أن نبدو  ووجه احسن ؛ فهذا ميلٌ إنساني فطري لا يحتاج إلى تفسير.
فالوجه الجميل، منذ أقدم العصور، كان علامة صدقٍ وطمأنينة قبل أن يصبح معيارًا للمقارنة .
لكن أين تنتهي الرغبة الطبيعية في التجمّل واين يبدأ القلق؟
أين الحد بين “أريد أن أظهر بأفضل حال” وبين "اكره  أن أبدو كما أنا”؟
منذ فجر التاريخ، لم تكن علاقة الإنسان بجسده علاقةً محايدة.
ففي مصر القديمة، كان الجسد يُحنَّط احتفاءً بخلوده، والوجه يُنقش على جدران المقابر ليبقى شاهدًا على صاحبه في الزمن الآخر.
وفي اليونان، تحوَّل الجسد إلى تمثال رخامٍ مثالي، تُقاس به الفضيلة، 
أما في الثقافات الشرقية، فقد كان الجسد وعاءً للروح، وتعبيرًا عن توازن الباطن والظاهر، لا منصةً للاستعراض.
ومع اختلاف هذه التصوّرات، ظلَّ الوجه عبر الحضارات مرآةً للوجود وذاكرةٌ للزمن ودليلٌ على عبور الحياة.
ومع ذلك، فقد تسلّل إلينا اليوم نظام اجتماعي ناعم، كما يسميه علماء النفس، يفرض علينا "ديكتاتورية الشباب الدائم” وملامح بلا أثر، وصورًا مُصفّاة كأننا نعيش داخل قوالب مصنوعة، لا داخل أجساد تتغيّر وتكبر .
في ركنه االاسبوعي بجريدة القبس الكويتية  كتب الدكتور سليمان الخضاري  :
“أحسن وجه هو الذي يحكي قصته بصدق ويروي حكاية التجاعيد وأشياء أخرى.”
فأي جمال أعمق من وجهٍ عاش، وابتسم، وخسر، وربح، وبقي واقفًا؟
أليست التجاعيد،نقوش  على جلد الذاكرة؟
لكن في غفوة يعيدنا صوت نسائي صارم إلى  الواقع،   بعدما تكون موظفة السفارة قد تفحصت بعناية وثائق الملف :
"من فضلك خد هذه الصورة وأعطيني  اخرى  حديثة  لا تتجاوز ستة أشهر”
فنبتسم  داخليا بعمق لأننا نكتشف  ان العالم، رغم كل شيء، فهو يطالبنا أن نكون  كما نحن الآن، لا كما كنا في أرشيف ذاكرتنا .
وهكذا فحين أردد مع الغافولي:
هاكا عاجبني راسي
لا أقولها تعاليًا، بل امتنانًا، لوجهٍ يشبه حكايتي،ولعمرٍ يمشي معي… ولا يهرب مني.
.