المراهقات الأوروبيات والأميركيات الهاربات من أهلهن للالتحاق بـ "الدولة الإسلامية"، تتزايد أعدادهن؛ كل يوم تقريباً يُعلن عن محاولة فاشلة، أو ناجحة، جرت في تلك المدينة أو البلدة الغربية. وكل يوم يُطرح السؤال "لماذا؟ كيف؟": ما الذي يدفع مراهقة خرجت لتوها من عالم الطفولة، تنتمي إلى الطبقة المتوسطة وما فوق، ناجحة في المدرسة، لا تعاني مشكلات التهميش أو الفشل الاجتماعي، منها المسيحية أو اليهودية، لا تعرف عن الإسلام شيئاً، ولا عن لغة القرآن حرفاً... ما الذي يدفعها إلى اتخاذ القرار بالتخطيط للسفر إلى سوريا للالتحاق بالداعشية والعيش في دولتها؟
الجواب تقدمه جيرالدين كازوت، عالمة الاجتماع الفرنسية، صاحبة كتاب "النساء في ظل الجهاد"؛ فتقول إن علينا، من الآن فصاعدا، أن نعترف بأن المراهقات الذاهبات إلى أرض الجهاد الداعشي تجذبهن بقوة الأدوار النسائية التقليدية؛ تلك الأدوار التي نالت نصيباً هائلاً من الإنكار في المجتمعات الأوروبية. أولئك المراهقات تجدن سعادة حقيقية بالارتباط بمقاتل جهادي. فهن يرين فيه رجلاً فاضلاً وصاحب رجولة، عكس الرجل الغربي الحديث، الذي تختفي ملامحه الرجولية شيئا فشيئاً، رجل لا يشعرن بأنه يحترمهن دائماً. وهن بذلك، بهذا الانجذاب إلى نوع كهذا من الرجال، يسجّلن نقدهن للتصدّعات والنواقص التي تعرفها المجتمعات الغربية بخصوص العلاقة بين الجنسين. فبالتحاقهن، أو التوق لالتحاقهن بالدولة الداعشية، يصوِّبن نقدهن نحو خبث نظامهن الاجتماعي الذي يدّعي المساواة بين الجنسين، ولكنه ما زال يميز في الأجور بين الجنسين، يحاكم النساء اللواتي لم يحققن وضعية مهنية عالية من دون أن ينجبن أولاداً، أو اللواتي، بالعكس، يغلبن تربية أطفالهن على الترقي والمجد المهنييَن. وهو نظام يرفض حق الحجاب للمسلمات، ولكنه لا يرفض عري النساء. كل هذا يشير، تتابع العالمة، بأن وضعية المرأة في المجتمعات الغربية ليس واضحا تماما: ليس معروفا ما هو المطلوب منها بالضبط. الأمر الأكيد هو أنه مطلوب منها أن تكون على جميع الجبهات: الشخصية والعائلية والمهنية. والمرأة الغربية تتعب اليوم أكثر مما مضى، لأنه مطلوب منها وفقا لذلك أن تقاتل، أن تقاتل أكثر من الرجل، إذا أرادت أن تكون مستقلة. أمام هكذا معمعة أيديولوجية، تجد المراهقة المتمردة على نظامها الحل "البسيط والواضح" في دعوة الجهادي، عبر الانترنت، بأنه سوف يحفظها، يحترمها، يصونها، يتزوجها، يحميها من العيون... يقدم لها مجتمعاً بديلاً، ثورياً، مشروعاً للحياة الفاضلة والمحمية، ولو تحت القنابل والرصاص. ولا شيء يثني أولئك المراهقات، عندما يحلّ الوحي، عن السفر إلى أرض الميعاد هذه؛ حتى الجرائم الجنسية التي يرتكبها رجال داعش"، والتي تجدن لها مبرراً قوياً، من أن ضحايا هذه الجرائم من أيزيديات وشيعيات، لسن من الصنف البشري، وهن يستحقن مصيرهن البشع، بصفتهن "غير مسلمات". الذي تعرفه المؤلفة حتى الآن أن اللواتي وصلن إلى أرض ميعادهن، يتزوجن فور وصولهن، ثم ينجبن الأطفال ويطبخن (وربما أكثر، نظراً لما يرشح عن "الدولة الإسلامية" من أنشطة نسائية أخرى). وحتى هذه اللحظة، لم تَعُد ولا واحدة منهن إلى بلدها، فلن نعرف الآن مصير تجربتهن، خائبة كانت أم فالحة، وبأي معايير من النجاح والفشل.
ولكن ما يهمنا هو الدوافع العميقة خالقة هذا الانجذاب نحو نموذج بائد، أو نخاله كذلك: فقد بات واضحا، حتى الآن، أن الثورة النسوية، ككل ثورة، كسرت التوازن القديم القائم بين الجنسين، وهي حتى اللحظة، ما زالت في مراحلها الانتقالية الطويلة، المتخبطة، الفوضوية، مثل كل المراحل الانتقالية ما بعد الثورات. ما يخلق شروطا مريحة لردة فعل النظام القديم، مصحوبة بقوة رجعية، تملك منطقاً متكاملاً، منسجما، جاهزا، لا يحتاج إلا للتطبيق. أرض "داعش"، كما جذبت الرجال الغربيين المتعطشين إلى عددٍ لا متناهٍ من النساء الخاضعات، تجذب أيضا المراهقات إلى نظام جنسي يعيد إليهن دفء القعود في المنزل وسخونة الخضوع للزوج.
طبعاً، لن تجد المراهقات الهاربات من جحيم الغرب الجنة الموعودة في دولة "داعش". لن تكون العلاقة بينهن وبين شركائهن أو أزواجهن كما تصورن أنها ستكون، بالعزّة والحماية والاستقرار. بعضهن سيتحولن إلى أيقونات، والبعض الآخر إلى مقاتلات، إذا نقص رجال "داعش"؛ والبعض الآخر سوف يحاول الهرب، أو ينتحر، أو يستسلم للمصير الذي قررته لحظة تمرّد. وفي كل الحالات، سوف تكون مراجعة تجربتهن، بعد انقضائها، صعبة وغنية بدلالاتها.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)